أظهرت انتفاضة الخريف الماضي أزمة شرعية حادة تتعدّى أزمة نظام الحكم لتطاول نموذج دولة “الحصّالة المثقوبة”، الدولة المركزية الطائفية الاستبعادية للطبقات الشعبية عن التمثيل والمشاركة السياسيين المباشرين بشكل مزمن، وهو ما جعلها تتسم بصفة الدولة الأوليغارشية.
وهذا التعبير، “الأوليغارشية”، أشكل على كثيرين في الشهور الماضية، أو جرى استعماله بأشكال مشوّشة وضعيفة في كثير من الأحيان. فالتوصيف غير محصور بشريحة تتركّز فيها الثروة والقوة. الدولة نفسها ذات سمة أوليغارشية بشكل حثيث: ذلك أن اندماج أكثرية السكان بهذه الدولة ومؤسساتها لم يتأمّن إلا على قاعدة تنحية هذه الأكثرية عن أيّ تمثيل سياسي مباشر ومستقلّ لها، وعن أيّ مشاركة إيجابية في صوغ وتطوير النظام السياسي وتحديد وتحسين معايير السلام الاجتماعي.
هي دولة قائمة على معادلة “التضحية بالسلم الاجتماعي” بدعوى “الحفاظ على السلم الأهلي”. دولة غير قادرة على تأمين مقوّمات اقتصاد السوق الحرة ولا على انتهاج الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية، وكلا الأمرين منصوص عليه في مقدّمة الدستور. ودولة لا تلغي سمتها “الأوليغارشية” أنّها دولة ممليشة (من ميليشيا) حتّى النخاع. فالسلم الأهلي الذي يسوّغ التضحية بالسلم الاجتماعي، يعود في هذا النموذج فيضحّي بحاكمية القانون، وبالمساواة القانونية بين المواطنين، وبواقع محكوم بتراتبية من العنف.
إقرأ أيضاً: الحكومة في 100 يوم: نكثت 97 % من الوعود
انتفاضة الخريف أظهرت استفحال أزمة الشرعية الحادة هذه، أزمة شرعية كلٍّ من نظام الحكم والمؤسسات القائمة، وأزمة شرعية نموذج الدولة القائم نفسه. في المقابل، سواء تراجعت أو تأجّلت أو حجرت على نفسها أو تجدّدت المناخات الاحتجاجية والانتفاضية، ستظلّ قائمة أزمة الشرعية الحادة والمزدوجة. ولا يكفي لتخفيض حدّة هذه الأزمة انكشاف صعوبة تأمين بدائل.
كانت انتفاضة الخريف الماضي “ثورية” بمقدار ما كانت تقترب من الإقرار بأن أزمة الشرعية عميقة، وتخلص إلى أن هذا يعني وجود تآكل فظيع للعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه النظام الدستوري التعدّدي.
وكانت الانتفاضة غير ثورية، بمقدار ما أنّ الانتباه إلى أنّ النظام ما عاد يستند إلى عقد اجتماعي ولو ضمنياً يشرّعه، أخذ يدفع بأوساط فاعلة ومؤثّرة إلى التوهّم بأنه يمكن إيجاد بديل منهجي وسريع وشامل لعقد اجتماعي متآكل. في الواقع، كلما تآكل عقد اجتماعي وتسبّب بأزمة حادة لشرعية نظام ونموذج دولة، كلما كان محفوفا بدرجة أعلى من الصعوبات تجاوزُ ذلك إلى تأمين شرعية بديلة وعقد اجتماعي جديد. فكيف إذا كان الانتفاض حاصلاً على خلفية انهيار مالي واقتصادي، وغير مسبوق بتراكم كفاحي دؤوب مُفضٍ إلى هذه اللحظة الانتفاضية.
باختصار، أزمة الشرعية صارت مفتوحة. الانتفاضة جذّرت وعينا لها. الانتفاضة لم يكن مقدّراً لها موضوعياً ولا ذاتياً، أن تشقّ السبيل بشكل تتابعي لحلّ هذه الأزمة الحادة. هذه الأزمة تزداد تفاقماً مع ضمور الانتفاضة، وليس العكس. تفاقمها يستتبع لحظات احتجاجية وتمرّدية لا يسمح بجعلها تشعل انتفاضة جديدة شاملة حتى الآن، لا موسم كورونا الممتدّ، ولا هشاشة الأطر التنسيقية والتعبوية.
بهذا المعنى، تشكّل حكومة حسان دياب العنوان الأكثر “ظرفاً” لاستفحال أزمة نضوب الشرعية، لهذا النظام ولهذا النموذج من الدولة في آن. وكذلك التكثيف الأبرز لفكرة أن عدم توفّر البدائل لحلّ أزمة نضوب شرعية، وأزمة تآكل العقد الاجتماعي، لا يجعل من في السلطة يستعيدون شرعية مفقودة.
حسان دياب اسم لماذا بالتحديد؟ إنه اسم للبحث المستحيل عن مصدر آخر للشرعية.
بأيّ معنى؟
في البلدان حيث تتخلّى المعادلات المتسيّدة عن انتهاج سبيل شرعية دستورية، كثيراً ما يبحث الحاكم عن التعويض عنها من خلال ما يعرف بشرعية الإنجازات، الـ Output legitimacy. ليست شرعية صنع القرار، بل شرعية الفعل، أي الإنجاز.
حسان دياب يشبه كلّ من توهّم بأن الحلول لأزمة شرعية حادة في نظام ونموذج دولة، وانهيار مالي، وحصار مالي أميركي لحزب الله وللبنانيين بالجملة “على ضهر البيعة”… أنّ كلّ هذا يمكن حلّه بخرافة حكومة التكنوقراط “ذات الصلاحيات التشريعية”
البروفسور دياب يبحث عن شرعية إنجازات، عوضاً عن الشرعية الشعبية، وعن الشرعية الدستورية. وهذا طموح. لكن في الوقت نفسه، شرعية الإنجاز إما تكون من خلال بناء مؤسسات اجتماعية راسخة، وإما من خلال نقلة نوعية في قطاعات الطاقة أو الصحة أو التعليم، أو تكون إنجازات عمرانية، سدوداً كانت أو جسوراً، أو متاحف، أو جزراً اصطناعية، أو حتى إنجازاتٍ علمية تكنولوجية، كمثل الدخول في السباق إلى غزو الفضاء.
كلّ هذا، لم يجد له مكانة في مسردة حسان دياب عن إنجازاته. شرعية إنجازاته ليست من هذا العالم المادي. إنها شرعية إنجازات افتراضية. الفحوى هي التالية: إنجازات حسان هو أنه أول رئيس حكومة يقرّ بفشل سياسات من سبقه، ويُحصي الضرر، ويؤشر إلى أن الحصّالة لم تعد فقط مثقوبة، بل باتت أيضاً فارغة. وإنجازاته أنّه أول رئيس حكومة يتوقّف عن تسديد سندات اليوروبند، ليمنّي النفس بعدها باقتراض من صندوق النقد الدولي ومن الجهات المانحة ضمن مخطّط مؤتمر “سيدر”، لكن هذه المرة ليس بذريعة الاستدانة لخدمة الاستدانة، وإنما البحث عن الاستدانة مباشرة بعد توقّف تسديد الديون المتراكمة، بذريعة تخفيض الاستدانة هذه المرة!
هذا ضرب جديد من مشروعية الإنجاز. أما عن الشهوة والجلد على التكلّم بلغة الإنجازات في وضع كارثي كالذي نقاسيه، فحدّث ولا حرج. الإنجاز هنا يرادف الإقرار بحالة الإنكار والانفصال عن الواقع. أزمة الشرعية الحادة تستفحل أكثر مع شرعية إنجاز من هذا النوع. ومرة جديدة، هذا لا يعني أن البديل ينتظر عند قارعة الطريق. إلا أن البديل ما عاد يمكن تخيّله كما لو أنه “حسان دياب من نوع آخر”. إلى حدّ كبير، حسان دياب يشبه كلّ من توهّم بأن الحلول لأزمة شرعية حادة في نظام ونموذج دولة، وانهيار مالي، وحصار مالي أميركي لحزب الله وللبنانيين بالجملة “على ضهر البيعة”… أنّ كلّ هذا يمكن حلّه بخرافة حكومة التكنوقراط “ذات الصلاحيات التشريعية”.
لم تكن تلك المرة الأولى التي انساق فيها قسم من الرأي العام وراء خرافة التكنوقراطي الدؤوب والفاعل. لكن، لأول مرة، هذا الخيال التكنوقراطي تحقّق، وجد صيغته في الحكومة الحالية، وبالأخص في إنجازاتها التي لا هي مادية ولا هي معنوية، ولا هي موجودة لا في مكان ولا في زمان.