هو شخصية مميّزة من أعيان بيروت في القرن العشرين. ابن الحاج محمد رئيف المشنوق، أحد أكبر تجّار الحنطة والحبوب في الشرق الأوسط، والذي كانت له مكاتب في بور سعيد وبيروت وإسطنبول والبيريه باليونان، ومارسيليا بفرنسا. كما كانت له أعمال ببورصة الأسهم بلندن، قبل أن يستقرّ ببيروت عام 1889 وكان في أواخر العشرينات من عمره، فأقام في منطقة عين المريسة على صفق الموج.
يحار المرء من أين يستقي معلومات عن عبد الله المشنوق لكتابة سيرته الحافلة بوجوهها المتعدّدة. فإن كان هو التربوي القدير، فهو كذلك المناضل السياسي، والنائب والوزير. وإن كان هو الصحافي اللامع على مدى خمسة عقود، فهو كذلك الناشط الاجتماعي، مؤسس “جمعية الخلايا الاجتماعية” في بيروت.
أُسرته عنوان للعروبة التي لا تعرف الحدود. درس ببيروت، ثم في باريس. انتقل ليكون مديراً تربوياً في حماه ثم في بغداد، قبل أن يعود إلى بيروت فيصبح مديراً لكلية المقاصد في الحرج، فمديراً لمدارسها، ومفتشاً لها، وعضواً في مجلس أمنائها. وما بين التربية والتعليم والصحافة والسياسة، راكم عبد الله المشنوق رصيداً من المعارف والخبرات والعلاقات والرأسمال المعنوي، بحيث لا يمكن استذكار النصف الأول من القرن الماضي، وصولاً إلى ذروة الصعود في الستينيات، دون أن تعثر على اسم عبد الله المشنوق، في ثنايا الأحداث، قبلها وبعدها.
محطات فاصلة
ولد عبد الله في حماه عام 1904، إذ كانت والدته حاملاً به، عندما توفيت عمتها، فسافرت إلى حماة لحضور العزاء، وهناك وُلدت بعبد الله ثم عادت إلى بيروت. تلقّى علومه الابتدائية في بيروت في دار العلوم بإدارة الأخوين الهنديين عبد الجبار وعبد الستار خيري ورئاسة الشيخ توفيق الهبري. وبعد إقفال الدار، التحق بالكلية العثمانية التابعة للشيخ عباس الأزهري. التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وكان عمره 16 عاماً فقط. وكان متفوّقاً في الدراسة فأنهاها في سنتين، ونال منها بكالوريوس الآداب عام 1922. كما درس الحقوق في جامعة السوربون في باريس لثلاث سنوات. وكان عضواً مؤسساً في “جمعية الكشاف المسلم” وافتتح فرعاً له في حماة. كان عبد الجبار خيري قد أنشأ الكشاف العثماني عام 1912، ثم أصبح اسمه “الكشاف السوري” بعد الحرب العالمية الأولى. وأخيراً صار اسمه “الكشاف المسلم” عام 1920، ومن قادته المعروفين محيي الدين النصولي، رفيق درب عبد الله المشنوق لاحقاً في دروب الصحافة.
إقرأ أيضاً: المفتي الشيخ حسن خالد (2/1): الشخصية والرسالة والخير العام
ما بين احتلال الفرنسيين لسوريا ونشوب الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، كان الشاب عبد الله المشنوق في مطلع العشرينات، فتولّى إدارة “دار العلم والتربية” في حماه، لثمانية عشر شهراً. وتأسست الدار بدعم من الملك فيصل، ابن الشريف الحسين عام 1918 عندما جاء إلى سوريا بعد انسحاب الجيش التركي. وافتتح المعهد في العام التالي بأربعة صفوف ابتدائية، ثم انتقل إلى قصر العظم في حماه بعد شرائه. وكان القسم الداخلي في المدرسة يضمّ أبناء الطبقة الميسورة. وثمة شهادة معبّرة صادرة من أكرم الحوراني الذي كان تلميذاً في تلك المدرسة.
يقول الحوراني في مذكراته: “الأساتذة فيها كانوا يشجّعون على تفتيح مواهب التلاميذ”. و”ممن تولّى إدارة المدرسة قبل الثورة، الأستاذ عبد الله المشنوق، فطبّق فيها منهاج الجامعة الأميركية التربوي، وشكّل الفرق الكشفية وشجع الألعاب الرياضية. كنّا نحبّ الأستاذ المشنوق كثيراً لأنه كان متحرّراً يسخر بجرأة من الخرافات والأساطير. وقد نهض بالمدرسة وبرامجها وأسلوب تدريسها. وكان ممتلئاً نشاطاً وحماساً وذكاء”.
ومن أجل تقييم هذه الشهادة حقّ قدرها، لا بدّ من التعريج على شخصية الشاهد ومسيرته السياسية الحافلة. فأكرم الحوراني (1911-1996) مفكر ومناضل سياسي. شارك في الثورة السورية (1925-1927). بدأ مسيرته السياسية بالانتساب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. قاتل في العراق إلى جانب ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الاحتلال البريطاني عام 1941. وشارك في القتال في فلسطين عام 1947 ضد العصابات الصهيونية. وأسس عام 1950 “الحزب العربي الاشتراكي”. وفي عام 1952 اندمج هذا الحزب مع “حزب البعث العربي”، ليصبح “حزب البعث العربي الاشتراكي”. ومن تلاميذ المشنوق أيضاً في تلك المرحلة نفسها، أديب الشيشكلي (1909-1964)، الذي اندرج في السلك العسكري، وقاتل في فلسطين عام 1948. ثم نفّذ انقلاباً في سوريا فاستولى على الحكم عام 1951. واحتفظ المشنوق بصداقته مع الحوارني والشيشكلي، مع أنه كان أستاذهما، لتقارب السنّ.
ومع انتقال الملك فيصل إلى العراق من سوريا التي احتلها الفرنسيون، وتأسيس دولة العراق الحديثة، تأسست دار المعلمين العالية في بغداد عام 1923. وتولّى السوري الحلبي ساطع الحصري الإشراف عليها. وكان الحصري من أركان الإدارة الفيصلية في سوريا وزار معهد العلم والتربية في حماه. وبما أنّه وراء اختيار الأساتذة الكفوئين من العرب والعراقيين في دار المعلمين العالية في بغداد، فهو من استدعى عبد الله المشنوق ليستلم فيها منصب عمدة التربية. لكن تلك التجربة لم تعمّر طويلاً. وعاد إلى بيروت عام 1929، ليكون مديراً في “المقاصد”، دون أن يتخلّى عن التدريس وخاصة إن غاب معلّم ما لأيّ سبب، وله قول مشهور: “لا يكون المدير مديراً إن لم يبلّ يده بالتدريس”.
بدأ اهتمام عبد الله المشنوق بالصحافة عندما كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت، حين اشترك مع رفاقه، ومنهم أنيس ومحيي الدين النصولي، في إصدار مجلة للطلاب هي العروة الوثقى. وعندما كان في باريس، عمل مراسلاً لجريدة “البلاغ” التي كان يصدرها في بيروت محمد الباقر. ثم بدأ بإصدار مجلة “الأمالي”. وفي عام 1936 أسس جريدة “بيروت” مع أنيس ومحيي الدين النصولي وفؤاد قاسم. وفي عام 1947، انفرد بتأسيس جريدة “بيروت المساء”، التي يقول إنّها أوصلته إلى النيابة وإلى الوزارة، فضلاً عما وفّرته له جمعية “المقاصد” من جسر عبور بينه وبين البيارتة (بحسب ما جاء في كتاب “من ذاكرة بيروت” للأستاذ عمر زين نقلاً عن الوزير السابق محمد المشنوق).
لقد كتب عبد الله المشنوق آلاف المقالات والتعليقات والافتتاحيات في الصحف التي كان يرأس تحريرها لا سيما “بيروت المساء”. وكان لكتاباته تأثير كبير في الحركة السياسية في الخمسينيات والستينيات وتحديداً خلال ثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون ورئيس الحكومة سامي الصلح وحلف بغداد، ويتذكّر نجله الوزير السابق محمد المشنوق مانشيت صحيفة بيروت المساء في تلك الأحداث، وكان قاسياً وشديداً: “أسقطوا كميل شمعون. سنلبس أكفاننا ونسقط الطاغية”. وقد ذكر الرئيس سامي الصلح بمرارة في مذكراته جريدة “بيروت المساء” إلى جانب سواها من جرائد المعارضة، لما قامت به من دور مهمّ في تقويض عهد شمعون. هذه الثورة التي انتهت بانتخاب الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، أحدثت تغييرات عدّة في المشهد السياسي، ففاز عبد الله المشنوق بمقعد نيابي عن الدائرة الثالثة لبيروت 1960-1964.
ولم يكن دخول عبد الله المشنوق إلى لائحة صائب سلام أمراً سهلاً. فثورة 1958 التي تعبّر عن الانحياز إلى المحور العربي والذي يمثّله جمال عبد الناصر آنذاك ضد الحلف الغربي الذي انحاز إليه الرئيس كميل شمعون، كان قادتها مزيجاً من الطبقة السياسية التقليدية مع بعض الوجوه الشعبية الصاعدة. وفي بيروت كان الثنائي المتخاصم تقليدياً عبد الله اليافي وصائب سلام في معسكر واحد ويدعمهما حسين العويني. وإلى جانبهم رئيس حزب النجادة عدنان الحكيم. وخارج هذا الإطار، كان الاسم الصاعد هو الصحافي عبد الله المشنوق. وعندما حاول الثنائي اليافي وسلام تشكيل لائحة مشتركة في انتخابات عام 1960، رفض عبد الله اليافي عضوية المشنوق في اللائحة. ومن أجله انفرط التحالف، ودخل عبد الله المشنوق لائحة الدائرة الثالثة ببيروت وفاز في الانتخابات وحصل على تأييد جماهيري مميّز. وكان هذا نتاجاً طبيعياً للمعركة السياسية والإعلامية التي خاضها المشنوق على صفحات بيروت المساء وفي لقاءات المعارضة وخطاباتها الشعبية وتحرّكاتها الجماهيرية في تلك المرحلة.
تولى عبد الله المشنوق منصب وزير دولة لشؤون البلديات والأرياف في حكومة صائب سلام الأولى في عهد شهاب 1960-1961، ومنصب وزير الداخلية والإرشاد والأنباء في حكومة صائب سلام الثانية عام 1961. وشارك المشنوق في لجان التربية والإعلام والشؤون الخارجية، وكانت له مداخلات أساسية في قضايا التربية والمناهج وتأسيس الجامعات لا سيما جامعة بيروت العربية.
لكن هذا التحالف المؤقت بين سلام والمشنوق لم يدم، كما لم يدم التقارب بين صائب سلام وجمال عبد الناصر. فالزعماء التقليديون في لبنان انحازوا إلى الشارع المؤيد بقوة لمصر الناصرية في معركة معارضة عهد شمعون. وهو انحياز محدود بظروف سياسية محلية. أما عبد الله المشنوق فهو من قماشة مختلفة، وانحيازه إلى المشروع العربي، من طابع مختلف تماماً، وعلى أساس سياسي وفكري معاً. وعلى الرغم من أن التجربة السياسية للمشنوق وصلت إلى ذروتها منتصف الستينيات، إلا أنها أرست عنواناً سياسياً جديداً في الطبقة السياسية البيروتية، وجدت امتداداً لها عبر نجله الوزير السابق محمد المشنوق، كما عبر النائب الحالي والوزير السابق نهاد المشنوق، الذي شقّ طريقه إلى السياسة من خلال الإعلام وفي بيروت المساء كذلك، كما فعل من قبل عبد الله المشنوق.
هذه هي بيروت، العربية، المختلطة، الكوزموبوليتية، والمتنوّعة، وهذا هو عبد الله المشنوق، الذي كان عربياً من لبنان، وبيروتياً من العالم العربي
على الصعيد الاجتماعي، قام عبد الله المشنوق، في عام 1953، بتأسيس “جمعية الخلايا الاجتماعية”، التي أنشأت عدداً من الخلايا في بيروت والبقاع والشمال (18 خلية)، من أجل تلبية أغراض اجتماعية لأهل بيروت، في المناسبات المختلفة، كما كانت تضمّ مستوصفات وتقدّم خدمات. واتخذت الجمعية من “الخلية السعودية” مقرّاً لها. ثم انتقلت أملاك الجمعية المذكورة بعد حلّها إلى “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية” عام 1986.
مؤلفاته
صدر لعبد الله المشنوق مؤلفات مختلفة الأغراض، منها السياسي والأدبي والتربوي. وهي: “التعاون الثقافي بين الأقطار العربية”، و”قميص السعادة”، عن دار المقاصد الإسلامية، و”عشرة أيام في القاهرة”، و”نريد عفاريت”، و”وراء الأسلاك الشائكة”، و”ملاعق من فضة”. و”سلسلة مختارات إسلامية”. كما ألّف سلسلة من الكتب المدرسية المعتمدة في لبنان والعالم العربي، كسلسلة “المطالعة العربية” وسلسلة “القراءة المصوّرة” و”سلسلة الحساب الابتدائي”. كما بدأ بكتابة سيرته الذاتية عام 1981 بعنوان “فصول من حياتي”، لكن لم يتمكّن من إكمالها بسبب حادث صدم بسيارة تعرّض له عام 1983 على كورنيش المنارة قرب الحمام العسكري، فبقي يعاني من آثار الحادث إلى حين وفاته عام 1988.
وأكثر ما آلم عبد الله المشنوق اضطراه لبيع امتياز “بيروت المساء” بعدما ضاق الحال بأعبائها. وعن هذا يقول نجله الوزير السابق محمد المشنوق إنّ والده “تحت ضغط الاختناق المادي، كان أمام أمرين، إما الاستزلام والتبعية لنظام عربي، أو التراجع حتى الصمت. واختار في بيروت المساء الصمود والتراجع البطيء، حتى وجد نفسه مضطراً عام 1973 إلى بيع الامتياز رغم كلّ العروض المغرية التي جاءته لتدعمه في الصدور تحت لواء هذا النظام أو ذاك. وكان الصحافي طلال سلمان يريد شراء امتياز جريدة كي تصدر في بيروت بعد حصوله على الدعم الليبي، فأخذ موافقة مبدئية من عبد الله المشنوق، لكن الصحافي أمين الأعور سبقه”.
يقول الوزير السابق محمد المشنوق إنّ علاقة والده ببيروت هي “علاقة جدلية”. وقد اختصر والده علاقته ببيروت في مذكراته بالتالي: “بيروت قدّمت لي أكثر مما أستحقّ. فأصل والدي من مدينة حماه في سوريا. واسم عائلتي، أي المشنوق، اسم صعب لا يمكن أن تفتح لصاحبه طريق الأمجاد. ومع ذلك، أعطتني بيروت سدّة تربوية، وأخرى صحافية، وثالثة زعامية. تصوّر الأصدقاء أنّها يمكن أن تدوم بينما كان في تصوّري أنه لا يدوم غير الله، وأنّنا كلنا إلى زوال”.
هذه هي بيروت، العربية، المختلطة، الكوزموبوليتية، والمتنوّعة، وهذا هو عبد الله المشنوق، الذي كان عربياً من لبنان، وبيروتياً من العالم العربي.