تركت حكومة حسان دياب جوانب الإصلاح والتفتت إلى المصارف، في محاولة انتقام غير مفهومة ولا يبرّرها سوى الكيد والنيات المبيّتة لتدمير القطاع المصرفي ثم لاحقاً السيطرة عليه، مستغلّة لحظات عجز تتعلّق بحَنَق الناس ضد هذه المصارف، ظنّاً منها أنّ الأمر سيمدّها بمشروعية تفقدها.
في خطة الإنقاذ التي وضعتها، كشفت الحكومة أنّها ستعيد هيكلة القطاع المصرفي وستخفّض عدده إلى النصف، وأنّها من باب التحضير، ستصدر 5 تراخيص (لماذا 5 وليس 6 أو 3 أو 7؟) لمصارف جديدة برأسمال لا يقلّ عن 200 مليون دولار، 50 % منه جديد عبارة عن fresh money. وهذا يعني أنّ الحكومة ستعطي ترخيصاً لكلّ واحدة من الطوائف الكبيرة.
وزير المالية غازي وزني أعاد التأكيد على هذا الكلام، فاعتبر في حديث لـ”وكالة الصحافة الفرنسية” يوم الجمعة الفائت أنّ “خفض عدد المصارف من خلال الدمج هو أمر طبيعي”، لكنّه لم يخبرنا عن الفائدة التي ستعود من هذه الخطوة على خزينة الدولة المفلسة.
إقرأ أيضاً: في قلب الصراع: من يسيطر على البنوك؟
في المبدأ، هيكلة القطاع المصرفي ليست من اختصاص الحكومة، وإنما من وظيفة المصارف صاحبة الشأن ومن صلاحيات مصرف لبنان. قانون النقد والتسليف يضع البنك المركزي في صلب أيّ خطوة مماثلة، لكن الحكومة لم تُشركه في رسم الخطة، واختارت السير بها منفردة.
في الشكل، فإن عملية الهيكلة يحكمها جانبان: الأول تقني، والثاني سياسي ـ طائفي مثل أيّ شأن عام بلبنان للأسف.
في الشأن التقني، يُفترض أن تقيّم المصارف نفسها بشكل جدّي وشفّاف. تقييم يتناول حجم موجوداتها الهالكة Troubled assets من صنف الموجودات لدى مصرف لبنان، وقروض القطاع الخاص، وحمولتها من سندات الخزينة وسندات الـ”يوروبوند” التي بات تحصيلها شبه مستحيل. هذا التقييم سيمكّنها من معرفة موجوداتها، وبالتالي معرفة قدرتها الفعلية على امتصاص الخسارة والاستمرار من عدمه. إذاً، المصارف مطالبة بخطوات استباقية جريئة تخصّ الإصلاح الذاتي، وليس ترك الأمر للحكومة.
تقنياً أيضاً، تفترض الهيكلة إعادة طرح مشروع الـ”كابيتل كونترول” في المجلس النيابي بشكل مسبق، وذلك لسببين: أولاً كي تظهر قدرة المصارف الفعلية على الالتزام بالقوانين الموحّدة على السواء، لا كلّ مصرف وفق إمكاناته ومصالحه مثلما يحصل اليوم، لأنّ وحدة المعايير ستفضي إلى التمييز بين المصرف “المتعثّر” والمصرف “المتعافي”.
وثانياً، فإنّ قوننة الـ”كابيتال كونترول” ستكون بمثابة “حكمَ براءة” من مخالفات ارتكبتها المصارف خلال الفترة الممتدة من “17 تشرين الأول” إلى اليوم. هذا “الحكم” سيفتح المجال أمام المستثمرين الجدد لضخّ أموالهم في مصارف نظيفة، لا مصارف غارقة بالدعاوى القضائية والارتكابات والمشاكل مع المودعين.
هذه الخطوات ستدفع صوب تهيئة ظروف لتأمين رأس المال المطلوبة للدمج والاستحواذ، أكان من مستثمرين جدد أو من أموال المصارف نفسها، وإلا ستصبح المؤسسة المتعثّرة عرضة لخسارة أموالها وأموال مودعيها.
معلومات مصرفية تشكف لـ”أساس” أنّ الجزء الأكبر من رأسمال المصارف المودع لدى مصرف لبنان، وظّفه الأخير في سندات الخزينة وسندات اليوروبوند. بمعنى آخر، فإنّ هذه الأموال قد تبخّرت. ولعلّ هذا الأمر كان الدافع الفعلي خلف إعلان الحكومة إفلاس البلد بهذا الشكل السريع، الذي حركّته نية التخلّف عن سداد الديون المستحقة، بغية إحراج المصارف وإرباكها نقدياً على الأرجح.
خلال عملية الهيكلة المفترضة، لن يكون حجم المصرف وشهرته حصانة له في مواجهة السقوط. كلّ مصرف قادر على التكيّف مع الظروف المستجدة وعلى تلبية طلبات مودعيه وفق شروط الـ”كابيتل كونترول” بمعزل عن حجمه، سيكون مؤهلاً للبقاء. المنطق يفترض ذلك، لكن يبدو أنّ حسابات الحكومة ومن يتحكّم بها، تختلف كلياً عن هذا السياق.
على الرغم من كلّ ما سبق ذكره في الجانب التقني، يبدو أنّ ثمة عائقاً سياسياً ــ طائفياً يمثّل الشقّ الآخر من ظاهر الأزمة. السياسة ستحول حكماً دون إتمام الهيكلة والدمج بطريقة شفّافة وخاضعة لمقتضيات السوق. ربما خضوع السلطة للاعتبارات الطائفية والحزبية قد يمنعها من المسّ بما تراه “توازنات طائفية” داخل القطاع المصرفي. على سبيل المثال لن يكون سهلاً عليها استبدال مصرفٍ شيعي بآخر سنيّ أو ماروني، عملاً بمقتضيات السوق والحاجة. إجراءات الافلاس والدمج والاستحواذ ستدخل في تفاصيلها عصبية طائفية.
لن تترك السلطة آلية السوق كي تقرّر من هو المصرف القوي ومن هو الضعيف، وإنما ستتدخّل لتبقي الأصوات الطائفية حاضرة داخل القطاع وفق رؤيتها. ولعلّ طرح فكرة تراخيص المصارف الجديدة تنطلق من هذه الاعتبارات وليست إلاّ “تعمية” عن الخطوة الثانية.
التوزيعة الطائفية للتراخيص ستكون قادرة على جذب رؤوس الأموال التي تشبهها. رأسمال طائفي كبير سيكون قادراً على استيعاب المودعين الجدد وربما الاستحواذ على أكثر من مصرف متعثّر. أحزاب طائفية فاعلة ستكون قادرة على استقطاب متموّليها الكبار واستخدام أموالهم في بناء قطاع مصرفي رديف، يخدم رؤيتها الانتقامية أو التوسعية.
لكن، ماذا عن القطاع المصرفي السابق؟
لقد بات معلوماً أنّ الحكومة أسقطت من حساباتها فكرة الـ”Haircut” مؤخراً، واستبدلتها بالـ”Bail-in” التي تفترض أن تقوم المصارف بتحويل أموال مودعيها الكبار إلى أسهم، وذلك ضمن سقف يُحدّد مسبقاً. أي أنّ المودع الكبير قد يصبح من بين مالكي المصرف الجدد الذين يتحكّمون بسياسة المصرف فيما أصحابه الفعليون، عاجزون ومحاصرون بإجراءات غير شفافة ومعايير لم يُستشاروا أو يشاركوا بوضعها، ولهذا السبب يواجَه مشروع الحكومة برفضٍ شرس من مالكي المصارف و”جمعية المصارف” على السواء.
المعطيات المتقاطعة والمستقاة من أكثر من مصدر مصرفي، تؤكد أنّ مودعين من الطائفة الشيعية يستحوذون على 40 % من حجم الودائع، أي ما يقارب 60 مليار دولار
الغوص أكثر في تفاصيل الهيكلة والحديث عن التراخيص الخمسة، من دون إخبار الرأي العام عن فوائد هذه الخطوة على خزينة الدولة الفارغة، يطرح المزيد من علامات الاستفهام، ويحتّم البحث أكثر في الخارطة الطائفية للمصارف وللمودعين.
البيانات الصادرة من “الجمعية” تكشف أنّ المصارف التجارية التي ستخضع للهيكلة هي قرابة 45 مصرفاً، بينها 17 مصرفاً أجنبياً لا يمكن أن تشملهم لأنّ صلاحيات مصرف لبنان (وحتى الحكومة المتعدّية على صلاحياته) تتوقّف عند حدود مطالبتها بزيادة رأسمالها أو سحب تراخيصها فقط.
مقارنة بسيطة لبيانات ما تبقى من المصارف، تظهر أنّ توزيعتها الطائفية هي على الشكل التالي: 12 مصرفاً يملكها مسيحيون (روم وموارنة)، 8 مصارف يملكها سنّة، 3 مصارف يملكها شيعة، 3 مصارف ملكيتها مشتركة بين السنة والمسيحيين، مصرف واحد يملكه دروز، ومصرف يشترك سنّة بملكيته مع دروز… فيصبح مجموعها 28 مصرفاً تجارياً قابلاً لأن يخضع للهيكلة وخفض عددها إلى النصف بالإكراه، أي إلى 14 مصرفاً، سيكون المسيحيون والسنة في توزيعها بين الطوائف من أكبر الخاسرين.
أما خارطة المودعين، فكان من الصعب جداً جمع تفصيلها، لكن المعطيات المتقاطعة والمستقاة من أكثر من مصدر مصرفي، تؤكد أنّ مودعين من الطائفة الشيعية يستحوذون على 40 % من حجم الودائع، أي ما يقارب 60 مليار دولار (ورد ذلك أيضاً في ورقة بحثية نشرها معهد الشرق الأوسط قبل أيام) من أصل 150 مليار دولار، كانت قبل الأزمة بحدود 165 ملياراً وقيل إنّ 20 ملياراً سُحبت إلى الخارج وإلى بيوت الناس.
رقم الـ60 ملياراً يفوق بثلاثة أضعاف رساميل المصارف المودعة في مصرف لبنان، والتي لا تتخطّى 22 مليار دولار ويُرجَّح أنّها تبخّرت كما ذكرنا أعلاه، وبالتالي فإنّ الخطورة في الـBail-in أنها قد تقوّض المصارف وتضعها في قبضة “الثنائي الشيعي” الذي يدير حكومة تبرّعت لتقوم بما يخرج عن صلاحياتها، بحسب قانون النقد والتسليف، ولا يُستبعد أن يكون ذلك نوعاً من محاكاة لـ”مثالثة” مصرفية.
فالأجدى بالحكومة أن تبتّ بتعيينات مصرف لبنان وشواغره الجوهرية، لا أن تنقضّ على صلاحياته. وكذلك أن تترك للمصارف الخاصة حرية تقييم ذاتها وفق مقتضيات السوق ولتتحمّل المسؤولية أفعالها. لأنّ خطة الحكومة للهيكلة المزعومة، مريبة، تفوح منها روائح محاصصة طائفية… تتخفّى بلبوس الإصلاح الزائف.
* ساهم خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي في توضيح التفاصيل التقنية… فوجب شكره.