هو رجل التسويات بامتياز. السياسي الوسيط والتاجر الوسيط في آن. يبدو في سيرة حياته السياسية الحافلة كما لو أنّه تعبير عن “اللاموقف” من أيّ شيء، بالمعنى الإيجابي طبعاً. كما لو أنّه اللاعب الاحتياطي في الفريق، الذي يغيّر النتيجة في النهاية.
وفي لبنان، حيث الأزمات السياسية هي القاعدة، يكون الرجل الاحتياطي هو الأساس، والزعماء على طاولته يتنازعون. كان يؤتى به على الدوام لوقف صراع أو تأجيله، أو حلّ أزمة معقّدة، وليس لها إلا “الحاج” حسين العويني. وبخلاف ما هو شائع، أو ما يشتهر به، لم يكن دولة الحاج حسين، من دون مواقف سياسية واضحة، ولم يكن شخصية منزوية أو متردّدة. بل إن بداياته تشي بأنّه رجل مغوار، يتصدّى للمهمّات التي توكل إليه، مهما كانت خطيرة أو شائكة. هو رجل المهمّات الصعبة، القادر على الجمع بين المتناقضات، وعلى تدوير الزوايا الحادّة. وهو كذلك رجل مؤسسات ناجحة ومستدامة، ومتباعدة في الأغراض. فمن جهة، أسّس “بنك لبنان والمهجر” عام 1951، وهو من المصارف الرائدة في لبنان والعالم العربي، وكان أوّل رئيس لمجلس الإدارة. كذلك أسّس “دار العجزة الإسلامية” في بيروت عام 1954، وكان أوّل “عمدة” لها حتّى وفاته عام 1971، وهي الدار الخيرية العريقة المستمرة في تقديم خدماتها حتى اللحظة.
إقرأ أيضاً: عبد الله العلايلي: صديق الجميع… “حتّى الملاحدة”
بين “الخير” و”المصرف”، تجد “دولة الحاج”، في منزلة بين القيم العريقة، والحداثة المستقبلية.
من مواليد العام 1900 في بيروت، أشهر قليلة فصلت بين أن يولد في القرن 19 وبين أن يولد في القرن 20.
ولد في بيروت التي تكاد تخلو من مَعلَمٍ بارز يحمل اسمه. ليس هناك سوى شارع متواضع متفرّع من شارع بشير القصار قرب فردان، سمّته بلدية بيروت باسمه.
تلقّى دروسه الابتدائية في مدرسة مار يوسف، ثم في بطريركية الكاثوليك. انتقل في شبابه إلى فلسطين بعد اتفاقية سايكس – بيكو، لإنشاء مشاريع تجارية، وهناك أخفق. ثم غادر إلى مصر ومنها إلى الحجاز حيث عمّق علاقاته هناك وبنى صداقات متينة مع آل سعود التي تحدّث عن تفاصيلها المؤرخ والمفكر أمين الريحاني في كتابه “تاريخ نجد الحديث وملحقاته”. وهو صديقه الذي زكّى اسمه لدى العائلة التي أنشأت المملكة العربية السعودية، حيث برع العويني في لعب دور المفاوض الناجح بين السعوديين والهاشميين عام 1924. هذه الحقبة من عمر العويني صقلت بداخله شخصية المفاوض الليّن سهل المراس القادر على جمع المتناقضات وإخراج التسويات.
يصفه صديقه أمين الريحاني فيقول: من وجهاء مسلمي بيروت. وطني عربي. ثابت العقيدة. صريح الكلمة. صادق اللهجة. صلب العود. تعرّض للنفي في الكورة مع بعض وجهاء بيروت بسبب معارضته الفرنسيين. أما مهمته في التوسّط بين السلطان عبد العزيز بن سعود، والملك علي بن الحسين، فكانت خطيرة في طريق غير آمنة بين جدة ومكة، رافضاً الذهاب دون أن يكون محرماً. واختير لهذه المهمة لأنه كان في جدة وله علاقات تجارية في مكة المكرمة.
عاد العويني إلى لبنان لمدة وجيزة عام 1936، بعدما نجحت تدخلات الملك عبد العزيز في إلغاء قرار النفي بحقه عام 1928. نشاطاته الاقتصادية والاجتماعية مكّنته من تكوين قاعدة شعبية أوصلته إلى الندوة البرلمانية فكانت عودته النهائية إلى لبنان عام 1947. 17 سنة قضاها العويني في عالم السياسة، تولى خلالها رئاسة الوزراء 4 مرات في عهدي بشارة الخوري وفؤاد شهاب، ومرتين في عهد شارل حلو، والحكومات الثلاث الأخيرة، منها متتالية بسبب دقة المرحلة، وطمعاً بدبلوماسيته ونزاهته وحياده. كما تولى 20 حقيبة وزارية (5 مرات وزير دفاع، 4 مرات وزير خارجية مع أن المنصب كان حكراً على المسيحيين، 3 مرات وزارة الداخلية، 3 مرات وزارة المالية، مرتين وزارة العدل، ومرة واحدة وزيراً لحقائب البريد والتصميم والاقتصاد).
في السياسة، عرفه الناس بلقب “دولة الحاج” وبشعار “هيك.. هيك”، الذي أطلقه بعد أن جمع أقطاب السياسة في حكومة واحدة. وسألوه إن كانوا متعاونين أو قادراً على ضبطهم، فقال هذا الشعار للإشارة إلى: “إيه ولأ”.
العويني لم يكن من حَمَلَة الشهادات، ولم يرث “كار السياسة”، لكن الظروف ساعدته إلى جانب دبلوماسيته وذكائه وقدرته على الإبداع واكتساب المعرفة، فجعلت منه رجلَ أعمال من الدرجة الأولى، فأصبح خلال سنوات قصيرة سياسياً بارعاً ومحنّكاً.
استشرف العويني خطورة الطائفية، فدعا إلى “ضرورة إنشاء أحزاب لبنانية غير طائفية وغير مذهبية”، وكذلك إلى “توحيد برامج التعليم لأنها مقدمة لتوحيد الرؤى اللبنانية”، واستدرك أهمية المؤسسة العسكرية فطالب باعتماد “التجنيد الإلزامي”.
كان يرى، مذاك، اعوجاجاً في الدستور فدعا إلى تعديله “بما يتوافق وتطلعات الشعب اللبناني”. سبق الوزير جبران باسيل بسنوات إلى المغتربين فطالب بـ”العمل بشكل دؤوب لاستمرار التواصل” معهم، وكذلك اعتماد التعليم الإلزامي والمجاني في المدارس الرسمية، والعمل على تطبيق الإصلاح في النصوص والنفوس، وحرص على “تعميق العيش المشترك”.
مُنح “الحاج حسين” تقدير الشعب اللبناني وفاءً له وتقديراً وتكريماً ومحبةً واحتراماً، ونال أيضاً أوسمة رسمية كثيرة.
منذ عودته إلى بيروت وحتى وفاته عام 1971 رسخ مسيرة من العمل الوطني والقومي، فاستكمل خلالها إشرافه على مشروعه الخيري “دار العجزة الإسلامية” وبقية أعماله الإنسانية. ففي عام 1946، ترأس “رابطة لجان الأحياء الإسلامية” التي تولت بدورها عام 1954 تأسيس “دار العجزة الإسلامية”، وحرص منذ تأسيسها وحتى وفاته على جمع الأموال من المتمولين اللبنانيين والعرب، وفي مقدمتهم حكام المملكة العربية السعودية بما له من علاقات وثيقة بهم.
شهدت الدار في عهده ثم في عهد عقيلته السيدة شفيقة جارودي العويني (1971-1987)، تقدّماً وتطوّراً وذاع صيتها في المجتمع اللبناني والعربي. واليوم، تُقدّر ميزانية الدار السنوية بنحو 12 مليون دولار، تغطي منها وزارة الصحة قرابة 40%، أما الـ60% المتبقية فتغطيها هبات وتبرعات أهل الخير.
في أواخر شهر آب من العام 1968 كتب “الحاج حسين” وصيته قبل وفاته بخمسة أيام. طلب من زوجته التي كانت بقربه على السرير في مستشفى البربير وفي حضرة مؤسسها الدكتور نسيب البربير: “هذه وصيّتي أكتبها بخطّ يدي وأنا مالك لكلّ قواي العقلية والجسدية، فأرجو ممّن يعنيهم الأمر العمل على تنفيذ ما جاء فيها عندما تحضرني الوفاة”.
طلب من المشيعين عدم البكاء والاستعاضة عنه بتلاوة الذكر الحكيم، ودفنه باتّباع السُنّة. طالب أن يكون كفنه من القماش الأبيض القطني، وأن تُنقل جثته إلى بيروت بحال وافته المنية في الخارج، على أن تتّخذ أيّ سفارة لبنانية الترتيبات اللازمة بواسطة أكبر موظف مسلم فيها.
رفض أن يمشي المشيّعون على أقدامهم وراء جثمانه، وأن يُنقل على سيارة للصلاة عليَه في مسجد مقبرة الشهداء، وألا يُبنى فوق قبره إلاّ بالقدر الذي “يصونه من عبث عابث، وأن يكون مساوياً للأرض وألاّ يُزار إلاّ الزيارة الشرعية”.
كان المنزل مقرّاً رئيسيّاً للشخصيّات التي شاركت في ثورة الـ58، وملتقى للمسلمين والمسيحيّين. لكن من سخرية الأقدار، فإنّ الدار التي أرادها الملك مكاناً آمناً يلجأ إليه في حال وقوع اضطرابات في المملكة، تعرّضت للاحتلال والنهب والتخريب خلال الحرب الأهلية في لبنان
في الوصية نفسها كان هناك شق منها يخصّ ابنته الوحيدة ندى، قال فيه: “إنّ زوجتي شفيقة عبد القادر الجارودي وابنتي ندى، حرم غسان شاكر، على علم بأنّ بيت بولفار المطار الذي تملكه ابنتي والمؤجَّر منها لوالدتها قد تمَّ بيعه بمعرفتها وبرضاهما لصاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز السعود المعظم، وأنه تمّ قبض الثمن بأكمله. لذلك فإني أطلب إليهما أن يعملا على إخبار صاحب الجلالة عن استعدادهما فوراً لإجراء معاملة الفراغ للشخص الذي يختاره جلالته وللاسم الذي يراه”.
بنى العويني منزله المذكور، بين عامي 1951 و1952. هو منزل واسع مع حديقة على طريق المطار، اشتراه الملك فيصل من أجل تأمين مسكن له ولعائلته خوفاً من الظروف السياسيّة في المملكة في حينه. عرض “الحاج حسين” على الملك فيصل شراء المنزل بأي سعر يحدّده، وفي رسالة مؤرّخة في 5/10/1382 هجريّ (أيلول 1963)، أبلغ الملك فيصل العويني موافقته على عملية الشراء وتسديد ثمنه على أربعة أقساط في مدى سنتين.
نقل الملك فيصل ملكية المنزل إلى زوجته الملكة عفّت بعد وفاة العوينيّ عملاً بالوصية، لكن الملك رفض استلام المنزل، وطلب من العائلة العويني إقامة مراسم الدفن فيه وتقبّل التعازي حتّى الأربعين.
كان المنزل مقرّاً رئيسيّاً للشخصيّات التي شاركت في ثورة الـ58، وملتقى للمسلمين والمسيحيّين. لكن من سخرية الأقدار، فإنّ الدار التي أرادها الملك مكاناً آمناً يلجأ إليه في حال وقوع اضطرابات في المملكة، تعرّضت للاحتلال والنهب والتخريب خلال الحرب الأهلية في لبنان.
اليوم، يحلّ مكان قصر العوينيّ التاريخي، أربعة مبانٍ سكنية.
رحل “دولة الحاج”. نكاد لا نجد شارعاً باسمه، أو منزلاً، لكنّ اسمه يملأ بيروت، بمصرف كبير، وبدار يأوي العجزة العاجزين.
[PHOTO]