في العام 1998 دعا الخامنئي مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني لزيارة الجمهورية الإسلامية. وقد أرسلني الرئيس رفيق الحريري مع الأستاذ محمد السماك لمرافقة المفتي قباني في الزيارة التي استغرقت عشرة أيام قابلنا خلالها شيوخاً ومسؤولين سياسيين كثيرين، وشهدنا تجليات العالمية الشيعية بأوضح مظاهرها. لقد رأينا آلافاً من الطلاب العرب والأفغان والهنود ومن آسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا وأميركا. إنما المهم هنا الحديث الذي دار مع الخامنئي وقد قابلناه مرّتين بقم وطهران. شدّد الخامنئي في حديثه معنا على “الوحدة الإسلامية”. وقال مستطرداً إنهم في شبابهم كانوا معجبين بجمال عبد الناصر والثورة الفلسطينية وبتنظيرات “الإخوان المسلمين” للدولة الإسلامية! وفي حين انهمك هو (الخامنئي) في ترجمة كتب سيد قطب للفارسية، انصرف رفسنجاني، ودائماً بتوجيهٍ من الإمام الخميني، لترجمة كتابات الثورة الفلسطينية. وعندما قاطعتُه قائلاً: “لكنكم ترجمتم أيضاً أدبيات حزب الدعوة!”، أجاب باسماً: “لكنّ الصدر والآخرين كانوا أيضاً تلامذةً للإسلاميين السنّة، كلّ التنظيرات ضدّ طغاة الأرض في الدولة الحديثة ولصالح الحكم الإلهي كانت من عند المودودي وسيد قطب”. وقلت له: “تريدون يا سيدي القول إنّ أفكار المسلمين واحدة أو متقاربة بشأن مواجهة تغريبات الحداثة!”. وأجاب: “-هذا نعم”. ولكنني أردتُ ان أُضيف: كان هناك هذا الطابع العقائدي لتنظيرات الحاكمية، وهذا جديدٌ علينا وكان شديد الجاذبية: عقائدية إسلامية، في وجه عقائديات الماركسية والليبرالية.
إقرأ أيضاً: هكذا نعيد أهل السُنّة إلى المعادلة الوطنية
وما كان الإمام الخميني يميل لهذه العقائدية الشديدة، وكان ينبّهنا دائماً إلى أنّنا فقهاء بالدرجة الأولى، ولسنا متكلّمين! وهذا الأمر هو الذي ظهر في رسالته: “الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه”. الفتوى، وهي حرفتنا منذ ألف عام، تتيح للجماعة خيارات اجتهادية وبدائل، وإن لم تمتلك جاذبيات العقيدة الصارمة ذات الاتجاه الواحد والخطاب الواحد. وقد كان ذلك اتجاهاً مفاجئاً في الحديث، ما فهم أكثرنا معناه لأنه بدون سياق. وكانت المفاجأتان الأخريان في حديث خامنئي صاعقتين: فتوى الخميني عام 1987 لصالح اتّباع تعليمات الحكومة الإسلامية وإن خالفت أمراً دينياً – وفتواه عام 1988 بقبول وقف إطلاق النارمع العراق تبعاً لقرار مجلس الأمن رقم 589، وقد قال إنّه كان في قبوله للقرار “كمن يتجرّع السمّ”. وإنما نظر في كلّ ذلك نظرة الفقيه الذي “يُعيّن” مصلحة الدولة والدين معاً! وأردتُ المناكفة فقلت: “لكنه كان يا سيدي في الحالتين قائداً للدولة، وليس فقيهاً يمكن اتّباع فتواه أو عدم اتّباعها!”. وكأنما تعب من الحديث، أو أسِف لعدم فهمي، فقال باقتضاب: “ما تقوله هو مقتضى فتوى التخيُّر عند فقهاء السنّة، وليست فلسفة الفتوى وسلطتها عند السادة الإمامية، قوموا لنصلّ العصر”!
قبل أسابيع غرّد مرشد الجمهورية الإيرانية علي الخامنئي، عبر “تويتر”، في ذكرى وفاة الحسن بن علي بن أبي طالب، وقد أثنى على مصالحة الحسن لمعاوية عام 41هـ. والمعروف أنّ الخامنئي سمّى ابنه الأكبر “المجتبى”، وهو لقبٌ للحسن بن علي. لكنّ الخامنئي، تلميذ الخميني، ما كان من الحمائم، بل من جناح الصقور في حاشية الإمام منذ ستينات القرن العشرين، أي أولئك الذين اختاروا التمرّد على شاه إيران بعد نفيه للخميني عام 1963، الذي انتهى به المطاف بالنجف بالعراق. ويأتي الإشكال أو المغالطة في أنّ المطروح اليوم هو استمرار المواجهة مع الولايات المتحدة، أو الإصغاء لمطلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قبول التفاوض بدون شروط. وما كان الأمر كذلك بعد مقتل الإمام علي على يد أحد المنشقّين الذين سُمُّوا “خوارج”. فقد سارع الصقور من شيعة الإمام لمبايعة ابنه الحسن، الذي ما صمد أكثر من شهرين، ثم استقبل سرّاً مفاوضين من جانب معاوية، وعقد معه صلحاً، ثم غادر الكوفة إلى المدينة المنورة مشيَّعاً باستهجان شيعة والده وبكائهم والصراخ في وجهه: “يا مُذِلَّ المؤمنين”!
في الروايات السنية والشيعية كان معروفاً عن علي وعن ابنه الحسن، الميل أكثر للتنازل والمصالحة وكراهية سفك الدم تجنباً للفتنة وسعياً لانتظام أمور الأمة والإسلام. وعندما تنازل الحسن عام 41هـ، فليس بسبب حبّه للسلم فقط، بل أيضاً بسبب تخاذل الكوفيين الذين طالت عليهم الحروب، فبدأ شيوخ القبائل يكاتبون معاوية، وما كان هناك خيارٌ آخر يشبه ما فعله لاحقاً الحسين، الأخ الأصغر للحسن. بل إنما “خرج” الحسين، أو ثار، بعد عشرين عاماً (عام 61هـ)، على انسحاب الحسن من الكوفة، ووفاته بالمدينة عام 50هـ.
ولذلك، عندما يُقال اليوم: صلح (الحسن) أم ثورة (الحسين)؟ فهذا منظورٌ تاريخي طويل بالنظر لما حدث من بعد، وليس خياراً كان مطروحاً عام 41هـ! ثم إنّ الأمر كان وقتها لمعالجة إشكالٍ داخلي بين فئتين من المسلمين. ومؤرّخو أهل السنّة ومُحدّثوهم يروون عن النبي (ص) أنّه قال عن سبطه الحسن: ابني هذا سيّد، يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. أما اليوم فالصلح، إن كان، فهو بين المستكبرين من غير المسلمين – والمستضعَفين، الذين وعدهم القرآن بأنهم سيرثون الأرض إن صمدوا كما صمد موسى في وجه فرعون!
لنعُدْ إلى “فتوى” الخامنئي الأخيرة في استحسان صلح الحسن بن علي. سيرة الخامنئي في المرجعية منذ العام 1989 هي سيرةٌ عقائدية. وليس في العلاقة بالأميركيين فقط، بل وفي الشأن الداخلي الإيراني
وبالطبع فإنّ موقف الحسن ظلَّ مجالاً للنقاش بين المسلمين عبر التاريخ، كما ظلَّ موقف الحسين مبعثاً للفخر، وقد تأسس عليه التشيع الإثنا عشري على وجه الخصوص. لقد كانت المحنة أنّه بحسب الاعتقاد الإمامي، فإنّ الائمة الإثني عشر معصومون جميعاً لا ينال منهم الخطأ لا في الدين ولا في السياسة، ولا فرق بينهم عندهم، فالإمامة السياسية هي الركن الرابع من أركان الدين بعد المعاد وقبل الجهاد! ولذلك كان على أعلام أهل البيت وشيعتهم العقائديين أن يعتبروا المنهجين صحيحين: منهج الحسن، ومنهج الحسين. وكان بوسع الأئمة وأنصارهم أن لا يثوروا ويلتزموا التقية تبعاً لنهج الإمام الحسن مثلما فعل علي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم..إلخ أو يثوروا فيستشهدوا أو ينتزعوا السلطة، مثلما حصل مع زيد بن علي بن الحسين ومحمد النفس الزكية ويحيى بن الحسين الزيدي..إلخ. والطريف أنّ أئمة الزيدية وبينهم حسنيون وحسينيون كانوا على نهج الثورة. أما أئمة الإمامية الإثني عشرية وكلهم من سلالة الحسين، فقد كانوا على نهج المسالمة والتقية! إلى هنا والأمر اعتقادي وتاريخي أو العكس. لكن هناك عنصرٌ شديد الأهمية يجري تجاهُلُهُ في فهم ترتيب الأمور في زمن الغيبة الكبرى. فكلّ الدول الشيعية الإثني عشرية قبل ظهور الإمام الغائب أو المهدي المنتظر هي دُوَلُ وعهودُ تمهيد. ويدير أمور “الجماعة” الشيعية خلالها الفقهاء. وقبل الخميني ما كانوا يحبّون التصدُّر والتصدّي للشأن العام لأنّ الزمن ما يزال زمن ابتلاء. كان ديدنهم إدارة الأمور الحسْبية للجماعة بالمعنى الضيق من طريق الفتوى. وهناك خلافٌ بين فقهائهم منذ القديم، هل يجوز أن يتصدّى الفقيه للولاية العامة بنفسه قبل ظهور الإمام في توسعةٍ للأمور الحسْبية التي يتولاها عادةً؟ وفي زمن الحداثة والدولة الحديثة المتغربة والطغيان العلماني، رأى الخميني جواز ذلك بل ضرورته، لأنه صار هناك خطرٌ على الدين. ثم إنّ زمن الشدّة والظلمة هذا هو إيذانٌ بحلول عصر الظهور، الذي ينبغي التمهيد له بالحكومة الإسلامية (رسالة الخميني عام 1971). وقد ظلَّ أكثر الفقهاء المراجع متردّدين، وهم الذين اختلف الخميني مع كبارهم وهمَّشهم عندما وصل للسلطة.
ولنعُدْ إلى “فتوى” الخامنئي الأخيرة في استحسان صلح الحسن بن علي. سيرة الخامنئي في المرجعية منذ العام 1989 هي سيرةٌ عقائدية. وليس في العلاقة بالأميركيين فقط، بل وفي الشأن الداخلي الإيراني. ولذلك فقد تكون رسالته الإفتائية خاطرةً عاطفيةً في ذكرى الحسن الذي صالح لمنع الفتنة، ومع ذلك فإنه – بحسب الروايات الشيعية – مات مسموماً على مشارف دعوة معاوية لمبايعة ابنه يزيد بولاية العهد. لكنها قد تكون أيضاً تذكيراً بالمهمة الأصلية للفقيه وهي الفتوى التي تعني تحديد أو تعيين المصلحة الراجحة في ظرفٍ معيّن. فإيران منهكة تماماً، وسليماني رائد الاجتياح الإيراني مقتول. والخامنئي عجوزٌ مريض. وكما أراد الخميني في سنّه العالية جداً قبول وقف النار لتتنفّس إيران بعد حربٍ طاحنة فيرحل في ظروف سلام، فربما خطر للشيخ المرجع أن يسترجع مهمته الفقهية والإفتائية بالدخول في مهادنةٍ مع الولايات المتحدة، في وقتٍ تقاتل إيران المتعبة على عدّة جبهات، هي التي اختارتها طمعاً لا ضرورةً. وهكذا، فإنّ فكرة أو فتوى المصالحة مع المستكبرين تتطلب شجاعةً ربما كانت أعلى من شجاعة الخميني في تجرّع السم!
فهل يجرؤ؟
ترامب بعكس باراك أوباما لا يسهّل عليه الأمر!