منذ أن قرّرت الحكومة اللبنانيّة الإعلان عن التوقّف عن سداد ديونها، كانت كلّ دروبها تؤدّي إلى مكان واحد: صندوق النقد الدولي. فالقرار عنى قبل كلّ شيء تصنيف الدولة اللبنانيّة كدولة متعثّرة، بما يؤدّي إلى الخروج مؤقّتاً من أسواق المال، وانتفاء القدرة على الاقتراض منها مجدّداً لتمويل عجز الميزانيّة العامّة. وعدم قدرة الدولة على الاقتراض يعني بدوره طرح أسئلة أخطر، تتعلّق بسبل تأمين الدولارات المطلوبة لتمويل استيراد السلع الحيويّة، خصوصاً كون النظام المصرفي اللبناني يعاني أساساً من انهيار كبير جعله عاجزاً عن تأمين هذه الدولارات من خلال ودائع جديدة. كل هذه الإشكاليّات كانت تدفع باتجاه صندوق النقد الدولي، المرشّح الدائم للتدخّل عند تعثّر أيّ بلد في سداد ديونه السياديّة، أو عند مواجهة أزمة سيولة بالعملة الصعبة، مع العلم أنّ لبنان كان يواجه الأزمتين معاً.
ثمّة عوامل أخرى جعلت اللجوء إلى الصندوق مسألة حتميّة، فالتعثّر يعني التوجّه إلى مفاوضات قاسية مع الدائنين. وهؤلاء سيطلبون ضمانات تؤكّد استعادة الدولة لعافيتها، قبل الموافقة على أيّ تضحيات تمسّ بقيمة السندات أو الفوائد. وهنا، يمثّل الدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي ضمانة معقولة للدائنين، خصوصاً أن الصندوق مختصّ في تقييم الخطط الإنقاذيّة وقدرتها على تمكين الدولة من استعادة ملاءتها الائتمانيّة في المستقبل.
إقرأ أيضاً: “صندوق عون”: خطة القبض على أصول الدولة ومليارات المودعين
بالتأكيد، يمكن القول إنّ اللجوء إلى صندوق النقد هو بطبيعته خطوة مؤلمة جدّاً لأيّ مجتمع، خصوصاً أن آليّة عمل الصندوق تقوم على فرض الشروط التي تكفل استعادة الدولة لقدرتها على السداد في المستقبل، ولو على حساب أولويّات ذات طابع اجتماعي معيشي. ولهذا السبب بالذات، اكتسب صندوق النقد تاريخيّاً سمعة سيّئة في معظم الدول التي دخلت في برامج قروض معه.
لكنّ الذهاب باتجاه الصندوق لم يكن مسألة اختياريّة لأسباب عديدة. السبب الأوّل كان تأخّر الدولة في تنفيذ خطط يمكن أن تشكّل مقدّمة لتغيير في بنية النموذج الاقتصادي اللبناني، بل وكان من الواضح أن تركيبة مكوّنات السلطة ومصالحها لن تسمح بهذا النوع من الإصلاحات بشكل جدّي. ولذلك، رفض الدائنون الأجانب الدخول في مفاوضات لإعادة هيكلة الديون السياديّة قبل إعلان التعثّر رسميّاً. وقد يعود هذا الرفض تحديداً إلى رغبة الدائنين بالتفاوض مع الدولة بعد إعلان التعثّر ودخول مرحلة التفاوض مع صندوق النقد، للتأكّد من وجود صندوق النقد كطرف قوي قادر على فرض الشروط المطلوبة لاستعادة الدولة لقدرتها على سداد الديون.
أمّا العامل الآخر الذي حتّم التوجّه إلى الصندوق، فكان أنّ بعض الأطراف الدوليّة، التي كان يراهن لبنان تقليديّا على دعمها، أحجمت عن توفير أيّ دعم مالي قبل دخول البلاد في برنامج مع الصندوق، كحال فرنسا والاتحاد الأوروبي. ولعلّ اشتراط الدخول في برنامج مع الصندوق يعود تحديداً إلى تجارب هذه الجهات السابقة مع لبنان، والتي انتهت دائماً بعدم امتثال لبنان للشروط والإصلاحات المطلوبة. ومن المؤكّد أنّ هذه الجهات لن ترغب بتقديم قروض إضافيّة دون أن تضمن وجود جهة تملك خبرة في صياغة برامج تربط إنفاق القروض بتنفيذ الإصلاحات وفق جداول زمنيّة واضحة.
اتجهت الحكومة إلى الصندوق إذاً ودخلت مرحلة التفاوض، لكنّ هذا المسار لم يخلُ من أخطاء كبرى ستعرقل طريقها نحو الدعم المطلوب. فمن المعروف أنّ خطّة الإصلاح الحكومي التي أقرّتها الحكومة مؤخّراً لم تكن سوى ورقة عمل اضطرّت لإنجازها كسبيل أساسي لدخول المفاوضات مع الصندوق. لكنّ الثغرة كانت مسارعة الحكومة إلى صياغة هذه الخطّة بالاعتماد على شركة “لازارد” الاستشاريّة، وإقرارها، دون تأمين التوافق المطلوب حولها على المستوى المحلّي، وتحديداً مع مصرف لبنان.
فحتّى اللحظة ما زال مصرف لبنان يعبّر عن تحفّظات كبيرة حول الخطّة المقترحة، وتحديداً من جهة طريقة احتساب الخسائر والفجوات في ميزانيّته وميزانيّات المصارف التجاريّة، ومن ناحية المقترحات المطروحة للمعالجة. وقد ظهر الاختلاف في وجهات النظر بوضوح خلال الاجتماعات التي جرى عقدها بين وفد صندوق النقد والوفد اللبناني، وهو ما دفع وفد الصندوق إلى التعبير عن مفاجأته بتباين الآراء بين أعضاء الوفد اللبناني، الذي يضمّ ممثّلين عن المصرف المركزي ووزارة المال بالإضافة إلى مستشاري رئاستي الحكومة والجمهوريّة.
في الوقت الراهن، تتكثّف الضغوط للدّفع باتجاه تخلّي حاكم مصرف لبنان عن مقاطعته الاجتماعات مع صندوق النقد، ويُقال إنّ لتوقيف مدير العمليات النقديّة في المصرف المركزي دوراً في ذلك
سيترك هذا الخطأ الكبير أثره على كلّ مسار التفاوض مع الصندوق، خصوصاً أن وفد الصندوق سارع إلى إطلاق مسار اجتماعات منفصل مع مصرف لبنان بعد أن تبيّن له وجود مقاربة مختلفة جذريّاً للأزمة لدى حاكم المصرف المركزي. ومن المؤكّد أنّ وفد الصندوق لن يقدم على النظر بإيجابيّة لأيّ خطّة حكومة لا تنسجم مع عمل المصرف المركزي، صاحب الدور الأكبر في تنفيذ السياسات النقديّة وإدارة الشؤون المتعلّقة بالقطاع المالي.
أمّا ما يضاعف من أثر هذه المشكلة، فهو انسجام بعض مخاوف حاكم المصرف المركزي مع توجّهات الولايات المتحدة، صاحبة النفوذ الأكبر داخل صندوق النقد. فحاكم مصرف لبنان يملك تحفّظات كبيرة إزاء فكرة تحميل الجزء الأكبر من الخسائر الموجودة للمساهمين في القطاع المصرفي، وهو ما يتقاطع مع هواجس أميركيّة مشابهة تتخوّف من هذه الفكرة كونها تعني بكلّ بساطة تحويلاً في ملكية المصارف لمصلحة أطراف جديدة، مع كلّ ما يعنيه هذا الأمر من أن تدخل جهات إلى النظام المالي العالمي قد لا تلتزم بتعليمات وزارة الخزانة الأميركيّة وخطوطها الحمر.
في الوقت الراهن، تتكثّف الضغوط للدّفع باتجاه تخلّي حاكم مصرف لبنان عن مقاطعته الاجتماعات مع صندوق النقد، ويُقال إنّ لتوقيف مدير العمليات النقديّة في المصرف المركزي دوراً في ذلك. لكنّ هذه المساعي، إن نجحت، فهي لن تلغي حقيقة التحفّظات الكبيرة التي ما زال حاكم المصرف المركزي يعرب عنها اتجاه خطة الحكومة ومقاربتها للمعالجة، وهو ما سيبقى يشكّل عثرة الحكومة في مفاوضاتها مع الصندوق طوال الفترة المقبلة.
في كلّ الحالات، ما زال مسار التفاوض مع صندوق النقد في بداياته، ومن المؤكّد أنّ الحكومة تلقّفت جيّداً رسائل وفد صندوق النقد الذي أصر على الوقوف عند رأي سلامة منفرداً، كما أصرّ على أن ينصح الوفد اللبناني بشكل فجّ بضرورة التنسيق بين أعضائه. فهل تبادر رئاسة الحكومة إلى تصحيح هذه الثغرة أو تمضي في معركتها الخاسرة مع سلامة حتّى النهاية؟