شاءت الصدف أمس الأوّل أن أعاين 3 مستشفيات خاصة، تُجري فحوصات الـPCR الخاصة بفيروس كورونا. العاملة التي تساعد زوجتي في الواجبات المنزلية انتهى عقد عملها معنا قبل نحو شهرين ولم أتمكّن من إعادتها إلى بلادها في حينه بسبب إقفال المطار. وسنحت الفرصة لها بالسفر الآن بعد فتح المطار. قيل لي إنّ الفحص يجب ألّا يتعدّى 48 ساعة لتتمكّن من الصعود إلى الطائرة، فاضطررتُ لاصطحابها صباح الإثنين وليس قبل ذلك.
إقرأ أيضاً: د. مِحفارة: أغلقوا المطار وافتحوا البلد.. وPCR يخطىء
قصدت “مستشفى جبل لبنان” عند الساعة الثامنة صباحاً، لأنّها قريبة من المنزل، فوجدت الناس متهافتة متحلّقة حول المدخل تحت أشعة الشمس الرمضاء، في مشهد مخيف. الوقوف بين الناس بهذا الشكل، كفيل أن ينقل العدوى إليكَ إذا كان هناك مريض أو اثنين يحملون الفيروس وينتظرون إجراء الفحص ليتأكّدوا: لا تنظيم ولا أرقام تُوزّع على المنتظرين. بل الأهم أن لا مراعاة للأولويات أو لمواعيد السفر، وإنما “الشغل شغّال” على قاعدة “يلي سبق…شمّ الحبق”. عدت أدراجي إلى السيارة بعد أن هالتني فكرة الانتظار بين هذه الجموع لساعات.
قصدت مستشفى “السان جورج – الحدث” التابعة لـ”حزب الله”. تخال نفسك لبرهة أنّك تدخل ثكنة عسكرية: رجال أمن يلبسون الجزمات والسراويل العسكرية، أجهزة لاسلكية
قلت في سرّي، فلأقصد مستشفى “أوتيل ديو”، هي الأخرى قريبة من هنا، ويُفترض أنّ يكون الحال أفضل من “جبل لبنان”. وصلت إلى الأشرفية بشقّ الأنفاس بسبب زحمة السير مع بداية الأسبوع. ركنت السيارة في المرآب السفلي وصعدت إلى الطابق الأول، حيث الحال كان أفضل من سابقه بتفاصيل طفيفة. الناس تنتظر في صالة غير مكيّفة فيما “الطابور” وصولاً إلى الداخل ينعم ببعض النسمات الباردة المتسرّبة من التكييف الداخلي.
أشخاص مصطفّون عشوائياً بغضّ النظر عن أيّ دور أو رقم. يخرج رجل الأمن بين الحين والآخر ليصرخ على هذا الرقم أو ذاك، ويهدّئ من روع هذا العجوز أو تلك الصبية. يأتي ممرّض قاصداً رجلاً مسنّاً في ذيل الصف، ويهمس في أذنه، فيستلّ الأخير من جيبه 150 ألف ليرة ويعطيها للممرّض الذي يشقّ طريقه عائداً إلى الداخل. ربما هذا العجوز يعرف أحداً في المستشفى، فأوعز له أنّه عند المدخل، فأكرمه بخطّ عسكري… وما هي إلا دقائق حتى يخرج من يصرخ له باسمه ليجري الفحص ويعود إلى بيته.
يطلّ رجل الأمن برأسه من الداخل مجدّداً، ويقول بصوت مرتفع: النتائج بدها 48 ساعة لتطلع”. يعمّ الهرج والمرج، لأنّ الجميع ينتظر بدوره أملاً في الحصول على الفحص خلال 24 ساعة لا أكثر (مثلما تشير اللافتة المعلّقة عند مدخل الصالة) فالكلّ يهمّ بالسفر. يهمس هذا لذاك، يلتفت أحدهم يمنةً ويسرةً، ثم ينسحب من “الطابور” بعد حسبة بسيطة: ما نفع الفحص إن كنت سأحصل على النتيجة بعد موعد الرحلة؟
كنت أنا من بين الذين أجروا هذه الحسبة، فعدت إلى المرآب لأستقلّ السيارة وأقصد هذه المرة مستشفىً صغيراً “هامشياً” في ضواحي بيروت، علّ الهامشية تنعكس على حجم تهافت الناس على الفحص المشؤوم. قصدت مستشفى “السان جورج – الحدث” التابعة لـ”حزب الله”. تخال نفسك لبرهة أنّك تدخل ثكنة عسكرية: رجال أمن يلبسون الجزمات والسراويل العسكرية، أجهزة لاسلكية ونظرات تتقاطع فوق عوارض حديد ضخمة تشبه كاسحات الألغام لصدّ أيّ عملية اقتحام انتحارية (سترك يا ربّ)، لكن للأمانة.. الاحترام سيد الموقف.
شاهد صديقي أشخاصاً يدخلون “في خطّ عسكري”، دون انتظار ولا دور، فقط يقولون أسماءهم التي يبدو أنّها “هبطت بالباراشوت”
هناك أيضاً الأعداد كانت غفيرة، والناس تقف تحت أشعة الشمس الحارقة. لكن ما يعزّيك أنك تشاهد كلّ شيء أمام عينيك. ربما هذا الأمر يعطيك شيئاً من الطمأنينة، لأنك ترى الدورة كاملة أمام عينيك. تشاهد الفحص يُجرى للجميع أمامك. تعاين الأرقام قبل دفع المبلغ المرقوم. ترى الناس تصطف في مكانها لتجلس على الكرسي حيث ينقضّ عليها الممرّض بتلك القشة اللئيمة، فيخرج صغيرهم يبكي ويصرخ، فيما كبيرهم يعرُكُ أنفه ويكحّ ويُدمع من طول القشة واخترقائها النهى… “وعِدّ على 150 ألفات طوال النهار”.
أخبرني صديقي، الذي زار في اليوم نفسه مبنى “الفلو Flu” في مستشفى الجامعة الأميركية، وهو استحدث في “مبنى موقف السيارات”، عن مشهد مشابه. وصل عند الساعة الواحدة ظهراً، وكان هناك عدد كبير من المنتظرين، وبعد تحقيق حول سبب إجراء الفحص، وبعد التأكّد من احتمال مخالطة زوجته أحد المصابين بالكورونا، سمح له بالدخول. وحين سأل عن عدد المنتظرين قبله، قيل له: “15”. في هذه الأثناء شاهد أشخاصاً يدخلون “في خطّ عسكري”، دون انتظار ولا دور، فقط يقولون أسماءهم التي يبدو أنّها “هبطت بالباراشوت”، ويدخلون فيما العجائز والأطفال والشبّان والرجال والنساء، ينتظرون.
قالت الممرّضة لهذا الصديق إنّ دوره لن يأتي قبل “ساعة تقريباً”. فأخذ ولديه، وتوجّه هو وزوجته والعاملة المنزلية إلى مقهى قريب. بعد ساعة اتصل، فقالت الممرّضة: “ما زال هناك 13 مريضاً قبلكم”. استشاط غضباً واتصل وتقدّم بشكوى لدى الإدارة. بعد ربع ساعة اتصل، فقالت الممرّضة: “هناك 7″، وبعد 10 دقائق: “الآن دوركم”. وحين سأل عن سبب تأخيره، أجابت الممرّضة: “كنّا نبدّل الدوامات”. وفي اليوم التالي تلقّى اتصال اعتذار من الإدارة: “كان هناك فوضى أمس، نعترف ونعتذر، وكان هناك مشكلة في توزيع الأدوار”.
نتيجة خاطئة واحدة كفيلة بـ”خراب بيوت”. لأنها ستمنعك من السفر وتكبّدك ثمن تذكرة ثانية بالدولار الأميركي الـ”فريش”
حجم الناس المتهافتة في الأماكن الأربعة، جعلتني أكفر بكورونا وبالمكورنين، وأرفض فكرة السفر أو الخضوع للفحص من باب الترف الصحي أو الوسوسة. كلّ هذه الفوضى والمحسوبية كما كلّ شيء في لبنان (à la libanaise) جعلتني أشكّك بنتيجة الفحوصات. فمع الفوضى العارمة وعدد الناس الهائل، يستحيل أن تصدر نتائج صحيحة ودقيقة، فتخال لبرهة أنّ الهدف هو إجراء الفحص وليس الفحص نفسه. ناهيك عن أنّ الـPCR مشكوك بصدقيته أصلاً، فالنائب جورج عقيص الذي “كركب” السلطة التشريعية بنتيجة إيجابية أعلنت إصابته بالفيروس، أظهر الفحص الثاني في اليوم التالي، أنّه سليم ولا يشكو من أيّ مرض… فتسأل نفسك وسط هذه الطامة: كم من جورج عقيص صَادفَنا عدّاد الأرقام؟ لعلّ شخصية عقيص بحكم أنّه نائب في البرلمان جعلتنا نتابع تفاصيل إصابته وشكوك نقله العدوى لسياسيين آخرين، وهذا لا يحصل مع الناس العاديين.
نتيجة خاطئة واحدة كفيلة بـ”خراب بيوت”. لأنها ستمنعك من السفر وتكبّدك ثمن تذكرة ثانية بالدولار الأميركي الـ”فريش”… هذا إن وجدت حجزاً مع طاقة تشغيلية لا تتعدى حدود الـ15%، ومن دون الخوض في الهلع الذي يصيب أصدقاءك وذويك ومخالطيك.
لكن وسط هذا كله، ثمة ملاحظة لم يتنبّه لها البعض على الأرجح، أو ربما ضاعت في زحمة الأرقام والهلع. فخلال موجات انتشار كورونا في الأشهر السابقة، كانت وزارة الصحة والمستشفيات الخاصة ترفض إجراء الفحوصات لمن لا يشكون من عوارض، ولهذا كانت الأرقام منخفضة. أما اليوم، فباتت الفحوصات مفتوحة، بل إلزامية لكلّ من يريد السفر أو دخول المستشفى لإجراء عملية جراحية، أو لأيّ شخص يريد الاطمئنان على صحته، مع أعراض أو من غير أعراض.
هذا الأمر زاد في فُرص رصد المصابين بشكل كبير جداً، ولهذا بدأت الأعداد تظهر مرتفعة ومترافقة مع هلع الناس. أما الإيجابية الوحيدة في هذه الواقعة، فهي أنّ أغلب الذين ظهرت فحوصاتهم “إيجابية” لا يعانون من أعراض (منهم مدير مكتب وزير الخارجية ناصيف حتي)، وهذا يعني أنّ المرض يتفشى وينتشر بين الناس، لكن بأعراض ضعيفة… لتبقى أعراض الفوضى والفساد والمحسوبية هي الأقوى في كلّ ما سبق ذكره.
يُذكر أنّ شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي أوقفت “شخصين مجهولَين” يقومان بتزوير تقارير لفحوصات الـPCR بنتيجة سلبية صادرة من مستشفى رفيق الحريري الحكومي (نحو 100 فحص)، من خلال تزوير الإسم وتاريخ الميلاد لصالح أشخاص لم يخضعوا لهذه الفحوصات، وذلك مقابل مبالغ مالية، كي يتمكن هؤلاء من مغادرة الأراضي اللبنانية.
مبروك.. تلبننت الكورونا ..