لم تخطىء زوجة الرئيس حسان دياب، نوار المولوي، حين اقترحت، بعد رحيل العاملات الأجنبيات، المساعدات المنزليات في بيوت اللبنانيين، أن تُفتح فرص عمل أمام لبنانيات للعمل في البيوت بدلاً منهنّ، وكذلك بعد رحيل العمّال الأجانب، الذي يعملون في مهنة “الناطور” بالمباني، أن تُفتح الفرص أمام لبنانيين بدلاً منهم.
هذه مهن محترمة. فعامل النظافة ليس وسخاً. من يرمي النفايات في الشارع هو الوسخ. عامل النظافة عمله أن ينظّف حيث مرّ “الموسّخون”. والعاملة المنزلية ليست “إهانة”. هي امرأة مكتملة الحقوق، ومكتملة المشاعر، ومظلومة، وأحياناً مُهانة إذا كان ربّ عملها أو ربّة عملها، شخصاً ناقصَ الإحساس وقليلَ الاحترام، وعاجزاً عن احترام من لا سند لها، ومن لا قدرة لها على مواجهته.
هذه مهن محترمة، ومن اعتبر كلام زوجة دياب إهانة، وجّه إهانة كبيرة إلى هؤلاء النساء اللواتي يعملنَ في بيوتنا، ويقمن بمساعدتنا، وخدمتنا، أحياناً مثل عبيد وعبدات، بلا إجازات، وبساعات عمل ضعف عدد الساعات القانونية، وبلا راحة أحياناً.
هي امرأة تترك أهلها وبيتها، وأولادها أحياناً، وبلدها، وتأتي لتكنس بيوتنا، وتمسح أرضنا حين نوسّخها، وتشطّف أولادنا، وتحملهم، وتشارك في إعداد طعامنا، وتكوي ملابسنا. هذه المرأة، التي يسمّيها بعضنا “خادمة”، ويسمّها آخرون “مساعدة منزلية” أو “عاملة منزلية”، على سبيل الترفيع والاحترام اللفظي، هي موظفة، وإن بشروط ظالمة، وبأجر كان منخفضاً جدّاً حتى شهرين إلى الوراء.
اليوم في لبنان أجرُ العاملة المنزلي، بالليرة اللبنانية، بات يعادل الحدّ الأدنى للأجور، وفق سعر صرف الدولار، إذا كان راتبها معدّله 200 دولار أميركي. ربّما للمرّة الأولى نعرف “كلفة” المساعدة المنزلية لو أردنا أن ندفع لها وفق المنطق القانوني، أي الحدّ الأدنى للأجور.
بات راتبها يقارب 900 ألف ليرة، وإذا أضفنا إليه المصاريف الإدارية السنوية في الأمن العام ووزارة العمل، سيتجاوز المليون ليرة شهرياً، هذا غير مصاريف إقامتها ومشاركتها في العيش تحت سقفنا.
كلّ هذا يجعل من دعوة زوجة رئيس الحكومة إلى أن يعمل اللبنانيون واللبنانيات في مهنة “المساعدة” و”الناطور” اقتراحاً منطقياً، خصوصاً أنّ نسبة العاطلين والعاطلات عن العمل وصلت إلى أرقام قياسية في الأشهر الأخيرة، وستزيد في الأشهر المقبلة، مع استمرار الإفلاسات في القطاع الخاصّ، وانهيار سعر صرف الليرة، واستطراداً تراجع القدرة الشرائية وانهيار القدرة على الاستهلاك، وأثر هذا على “الإنتاج” (راجع مقال الزميل وسام سعادة: “اقتصادنا الجديد: استهلاك أقلّ = إنتاج أقلّ”).
لكن ما جرى هو خروج لفيض العنصرية الكامنة في نفوس عدد كبير من اللبنانيين. تقيّح لفظي على فيسبوك وتويتر، ممن يفترض أنّهم “مثقفين”. فالمفاجىء هو خروج هذه التقيّحات من صفحات ناشطين يعتبرون أنفسهم “روّاداً” في حقوق الإنسان، وبعضهم من المتنطّحين لقيادة الثورة اللبنانيين ضدّ السياسيين والمصارف، وآخرون من بينهم يعتبرون أنفسهم مثقّفين ومتنوّرين و”سابقين” عصرهم وعصرنا.
“التحامل” على زوجة دياب، وعلى كلامها، قد يكون مفهوماً في سياق الاعتراض على الحكومة ككلّ، وعلى سياساتها. لكنّه شديد الإهانة للإنسانية، اعتبارها إهانة دعوة لبنانيين ولبنانيات فقراء إلى العمل في هاتين المهنتين. كأنّ اللبناني أعلى قدراً وشأناً من الأثيوبي أو البنغلادشي أو الفيليبيني.
كثيرون في لبنان يعتبرون اللبنانيين “أذكى” شعوب الأرض. هي أسطورة، “بين المزح والجدّ”، تجد لنفسها دائماً مخرجاً ومسارب، وتكمن أحياناً لتعود وتظهر، وتتمحور حول أنّ “اللبناني” متفوّق، جينياً ربما، أو تاريخياً.
في دول عربية كثيرة المساعدة المنزلية ليست أجنبية. هذا سيكون حالنا على الأرجح. بالطبع هو نتيجة فشل سياسي في حماية عملتنا، التي كانت قادرة على تأمين فارق في سعر صرف الدولار بين لبنان والدول التي يأتي منها العاملات والعمّال الأجانب
ربما يكون لهذه الأسطورة جذور في حكاية أصولنا “الفينيقية” (وهي أسطورة أخرى)، مروراً بـ”الحكم الذاتي” في جبل لبنان خلال الخلافة العثمانية في المنطقة. ذلك الحكم الذي ميّز أجداد بعضنا في لبنان. وصولاً إلى تصديق بعض اللبنانيين أنّنا لا نزال نتفوّق، علماً وحياةً وثروةً وعيشاً رغيداً ومتحضّراً، عن محيطنا العربي. هذا في حين بات لبنان في ذيل قائمة الدول العربية، من حيث دخل الفرد والطبابة، وربما لا يزال التعليم في لبنان يحافظ على بعض إرث مجده الغابر، وربما ليس لوقت طويل.
في بيوت الكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى عاملة أجنبية. يقدّر عددهنّ بـ200 ألف، أكثر أو أقلّ. وكما هو واضح فإنّ وجود “مساعدة” في المنزل سيقتصر في الآتي من السنوات على أبناء الطبقات الميسورة، من الأثرياء، ولن يكون متاحاً لمتوسّطي الدخل، كما كان الحال في الماضي من السنوات.
في دول عربية كثيرة المساعدة المنزلية ليست أجنبية. هذا سيكون حالنا على الأرجح. بالطبع هو نتيجة فشل سياسي في حماية عملتنا، التي كانت قادرة على تأمين فارق في سعر صرف الدولار بين لبنان والدول التي يأتي منها العاملات والعمّال الأجانب.
لكنّها ليست إهانة ما قالته زوجة دياب. على الأرجح تسرّعت في إعلان ما بدأ كثيرون منهم يتحسّسونه. كثيرون ينتظرون فتح المطار لتسفير العاملات، وبعض العائلات لا تجد دولارات لتخلّص الحسابات العالقة مع المساعدة في بيتها.
زوجة دياب لم تخطىء… نحن العنصريون والمتشاوفون.