يكتنف الغموض ملف تهريب الطحين من لبنان إلى سوريا. الأرقام الواردة من مديرية الجمارك هي كلّ ما نملك لمراقبة هذا الملف، إضافة إلى أخبار مكافحة التهريب والمصادرات التي تردنا بين الحين والآخر، وسط غياب أيّ مصادر معلومات أخرى.
في المبدأ، فإنّ أيّ زيادة في حجم الاستيراد فوق الطلب المحلي يُفترض أن تُنبىء بوجود تهريب ما إلى الخارج، لكن هذا الأمر لم تُظهره أرقام الجمارك بشكل واضح، خصوصاً في الأشهر الثلاثة التي تلت تعميم مصرف لبنان القاضي بدعم القمح والصادر مطلع تشرين الأول 2019. بل على العكس، فإنّ الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام نفسه، سجّلت معدلات استيراد أقل، فيما الزيادة واضحة في شهري كانون الثاني وشباط لأنّ أرقامهما فقط متوفرة على موقع مديرية الجمارك، دوناً عن أرقام أشهر آذار ونيسان وأيار الجاري.
إذاً، الجواب الشافي الدالّ على وجود تهريب من عدمه، تخبّئه بيانات أشهر آذار ونيسان وأيار. أما مقارنة المعدّل العام في السنوات العشر الماضية، فتشير إلى أنّ حجم الاستيراد يتراجع تدريجياً بشكل ملحوظ، لكن لا يمكن الحسم إلا بعد انقضاء السنة كاملة لمعرفة الأرقام كلها، وللسبب نفسه.
إقرأ أيضاً: كارتيل الأفران “يسرق” الطحين المدعوم… لصناعة حلوى بأسعار تنافسية
المطاحن العاملة في لبنان، وعددها نحو 12، تستورد بمعدّل وسطي شهري ما يقارب 40 ألف طن من القمح المخصّص للخبز، وتطحنه لتحوّله إلى طحين. لكنّ الاستيراد في كانون الثاني وشباط زاد بنحو 50 %، فبلغ 61 ألف طن (نحو 70 ألف طن في كانون الثاني و52 ألف طن في شباط).
المعلومات تشير إلى أنّ مديرية الجمارك طرقت أبواب المطاحن، الأسبوع الفائت، وأمهلتها أربعة أيام لتسليمها بيانات الاستيراد والبيع خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2019، لمقارنتها مع الأشهر نفسها من العام الجاري.
صحيح أنّ المديرية تملك هذه الأرقام، لكن ما تطلبه يتخطّى ما لديها إلى حدود معرفة أسماء التجّار الذين اشتروا الطحين في تلك الفترة، وربما لمقارنتها مع حجم مشترياتهم هذا العام لمعرفة سبب الزيادة المفترضة وإلى أين تذهب.
المطاحن تعترف بزيادة الطلب، لكنها تعزو ذلك إلى أزمة “كورونا” التي دفعت الناس إلى تخزين هذه المادة الحيوية في البيوت. مصدر في “تجمع مطاحن لبنان” رفض الكشف عن اسمه، قال لموقع “أساس” إنّه باع خلال الأزمة قرابة مليون كيس طحين سعة كيلوغرام واحد، وهذا في نظره “رقم بيع قياسي لم يُحقّق من قبل”.
يؤكد المصدر أنّ هذا الطلب مخصّص للمساعدات الغذائية التي وزّعها فاعلو الخير على الفقراء والمعدمين. وهذه الأكياس توضع غالباً في صناديق المساعدات التي نشطت عشية الأزمة الاقتصادية، وزادت بفعل الخوف من جائحة كورونا. لكن هذه المعطيات ليست إلا كلاماً لا دليل عليه، بانتظار بيانات الأشهر المقبلة ونتيجة التحقيقات التي تجريها مديرية الجمارك.
على مدى سنوات، كان خط تهريب المحروقات والطحين بين لبنان وسوريا يصبّ من سوريا باتجاه لبنان. لكن الآية انقلبت مؤخراً بعد ارتفاع سعر صرف الدولار في الداخل السوري، الذي لامس في الأيام القليلة الماضية سقف الـ1600 ليرة للدولار الواحد. سعر صرف الدولار في الداخل السوري هو المحرّك الرئيسي للتهريب.
الإنتاج السوري من القمح لا يكفي استهلاكها المحلي، فتلجأ الدولة السورية غالباً إلى الاستيراد من الخارج وتتلقّى المساعدات من حليفتها روسيا، ثم تدعم سعره داخلياً. تملك الدولة السورية مطاحن وأفراناً تبيع السوريين بواسطتها الخبز الوطني، فيما تحدّد سعر “الخبز السياحي” للأفران الخاصة وتمدّها بالطحين المدعوم، لكن بأرقام متواضعة لا تكفي إنتاجها الشهري، فتعوّض هذه الأفران الفرق من خلال الاستيراد أو من خلال التهريب عبر لبنان، حيث دولارات القمح مدعومة من مصرف لبنان مباشرة… وهنا الطامة الكبرى.
يبلغ سعر طن الطحين قرابة 590 ألف ليرة لبنانية أو نحو 140 دولاراً على سعر صرف السوق. يدعمها مصرف لبنان بأن يبيع التجّار 85 % من سعرها بالدولار الأميركي، على سعر 1500، أي قرابة 120 دولار، فيكون الفارق بين سعري الصرف قرابة 75 دولاراً في الطن الواحد، من خلال احتساب الفرق بين سعر السوق وبين السعر الرسمي. وإذا ضربنا 75 بـ40 ألف طنّ، فيكون مجموع خسائر مصرف لبنان من السيولة بالدولار، هو 3 ملايين دولار شهرياً، أي 36 مليون دولار سنوياً، إذا استمرّ الاستيراد على الوتيرة نفسها في الأشهر المقبلة.
البعض يقول “رفع الدعم عن سعر القمح” ربما يكون “الحل الأسلم”، لأن “التهريب مُغطى سياسياً ولا إمكانية لوضع المهربين عند حدودهم”، خصوصاً أنّهم أقوى من الدولة بفعل الأمر الواقع
قد يقول قائل إنّ القمح يُزرع في لبنان ويُعدّ ذا جودة عالية جداً، لكنّ هذا النوع من القمح المزروع في لبنان لا يصلح لإنتاج الخبز أبداً، بحسب خبراء، وإنّما يصلح فقط لصناعة المعكرونة وأصناف الـPasta. المفارقة أننا نصدّر قمحنا إلى الخارج، ثم نستورده بالدولار الأميركي على شكل معكرونة موضّبة تحت مسميات إيطالية رنانة وبأغلى الأثمان.
في لبنان ليس هناك أيّ مصنع للمعكرونة وتوابعها. تجربتان يتيمتان لم تتكلّلا بالنجاح، وأدّتا إلى إفلاس مصنعي Pasta بسبب المنافسة الشرسة والأكلاف الباهظة نتيجة رداءة البنى التحتية وغياب الحماية.
ما هو الحل؟
البعض يقول “رفع الدعم عن سعر القمح” ربما يكون “الحل الأسلم”، لأن “التهريب مُغطى سياسياً ولا إمكانية لوضع المهربين عند حدودهم”، خصوصاً أنّهم أقوى من الدولة بفعل الأمر الواقع.
مصدر آخر في “تجمع مطاحن لبنان” قال لموقع “أساس” إن “وقف الدعم لن يؤثر في الأسعار إلا بشكل طفيف”، معتبراً أنّ المنافسة ستتكفّل بلجم السعر. المصدر نفسه ذكّرنا للتأكيد على نظريته كيف كانت الأفران قبل سياسة الدعم، تسلّم ربطة الخبز للمحال والدكاكين بـ1000 ليرة برغم أنّ الدولة كانت تحدّدها بـ1500 ليرة. حتّى أنّ طنّ القمح، يقول مصدرنا، كان سعره مُحدّداً بـ590 ألف رسمياً، وكانت المطاحن تبيعه بـ530 ألف، على سبيل المضاربة، وكلّ ذلك من باب المنافسة وكثرة العرض.
المصدر نفسه يرجّح أن الزيادة في سعر ربطة الخبز “لن تكون أكثر من 500 ليرة”، لأن سعر طنّ القمح لن يزيد أكثر من 800 ألف ليرة، أضف إلى أنّ “المصاريف التشغيلية الأخرى هامشية”، وكلها بالليرة اللبنانية (كهرباء، نقل، أتعاب عمال…إلخ)، لأنّ لبنان “من الدول القليلة التي ما زالت تدعم القمح، فيما المنافسة ستدفع بالأسعار إلى أدنى مستوياتها”.
مع العلم أنّ دعم الدولة اللبنانية للطحين توقف في العام 2014 بحسب مصادر في وزارة الاقتصاد.
ربما يكون هذا الكلام صحيحاً في الجانب الاقتصادي البحت، لكن وسط الفوضى التي نراها على الصعد كافة قد يكون هذا الخيار كارثياً ولا يستأهل المخاطرة، خصوصاً أنّه يصيب الفئات الفقيرة من المواطنين في وقت دقيق كهذا. لكن إلى حينه لا مفرّ من أن تتحمّل الدولة مسؤولياتها، من خلال تفعيل دور وزارة الإقتصاد في ترشيد الاستهلاك وضبط الأسعار، وكذلك من خلال مكافحة مديرية الجمارك لآفة التهريب، وقبل ذلك الإسراع في الكشف عن أرقامه.