يُعتبر الشيخ محمد رشيد رأفت ميقاتي من وجوه طرابلس المخضرمة التي تركت بصمتها البيضاء في تاريخ طرابلس المعاصر، بعد مسيرة بدأت في ظلال الحرب العالمية الثانية، في الثاني عشر من شهر كانون الثاني عام 1942.
تلقّى الطفل محمد من والده تربيةً دينية دفعته لاحقاً لدراسة الشريعة الإسلامية، وهو المتحدّر من عائلةٍ استحوذت ميزة خدمة الأثر النبويّ الشريف، وكان من أبنائها المُفتون وأمناءُ الفتوى والمؤقّتون (الذين يعيّنون مواقيت الصلاة) والقضاة.
عايش الشيخ ميقاتي ثورة 1958 طالباً في ثانوية الحدّادين، وأتمّ دراسته الثانوية في دار التربية والتعليم الإسلامية ونال منها شهادة الفلسفة في الثانوية العامة.
إقرأ أيضاً: شيخ الاعتدال الوطني ومفتي الهدوء الديني والسياسي
شهدت تلك المرحلةُ المدّ الناصريّ والبعثي، لكن لم تستهوِهِ الموجة، فانتسب إلى جماعة “عبَاد الرحمن”، وشارك في النشاط الطالبي الذي قال عنه في مقابلة أجريت معه عام 2019 إنّه “تضمّن إصدار نشرةٍ عام 1958 في شهر رمضان، وكانت تحمل اسم “الثائر” “وكنتُ أقوم بتوزيعها، أنا والشيخ فيصل مولوي، فألقى القبض عليّ مفتش بالشرطة القضائية لأنّ المنشور تضمّن رفض تجديد ولاية الرئيس كميل شمعون ومناوأة مبدأ أيزنهاور الذي كان يريد تحويل لبنان إلى قاعدة أمريكية.. ثمّ خرجتُ بعد تدخّل جدّي المفتي الشيخ كاظم الميقاتي، وعندما اندلعت الثورة انقسمت طرابلس، وشهدت المدينةُ إقامة المتاريس واشتباكاتٍ بالمدافع والقنابل”، فلوحق الشيخ ميقاتي من المكتب الثاني لتنتهي الملاحقة بالعفو العام.
قبلها، في العام 1953، بدأ الأستاذ محمد عمر الداعوق نشاطه بالتردُّد على مركز “جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية”، وكان يلقي الدروس في مساجد طرابلس بأسلوبه الجذّاب، فانضمّ الشيخ ميقاتي إلى نادي “عبَاد الرحمن”. ثم نشأت “الجماعة الإسلامية” في المدينة، ليكون ركناً مؤسّساً فيها، وظلّ أميناً لِسرّها في لبنان حتى استقالته منها عام 1973.
بعد الثانوية انتسب الشيخ ميقاتي إلى كليّة الحقوق في الجامعة اللبنانية في بيروت وتخرّج منها عام 1966. وكان فيها كبار القضاة والأساتذة، ومن أبرزهم صبحي المحمصاني، وأمين الحافظ، وعزمي رجب، وإدمون رباط، وألبير فرحات وإدمون نعيم. ثمّ انتسب إلى كلية الشريعة في دمشق حيث تلقّى الدراسة على أيدي الكبار أمثال: مصطفى السباعي، ومحمد المبارك، ومصطفى الزرقا، ومعروف الدواليبي، وعبد الفتاح أبو غدّة، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وتخرّج منها عام 1975.
ذكر الشيخ ميقاتي في محطاته المحبّبة إليه أنّه زار القدس مع والديه وصلّى الفجر بالمسجد الأقصى، وكذلك صلاة الجمعة، في عام 1964. وزاروا القرى الأمامية لمدينة الخليل وبيت لحم. وفي العام 1968، شارك في غسل الكعبة المشرفة من الداخل، وذلك في عهد الملك فيصل، ضمن وفدٍ ضمّه والأستاذين عمر مسقاوي ومحمود الأدهمي، واجتمعوا يومها بالملك فيصل في جدّة وولي عهده (الملك) خالد. وكانت بداية العمل لإنشاء “مدرسة الإيمان الإسلامية” التي كان له شرف تأسيسها وإدارتها على مدى عشر سنوات.
في المجال الحقوقيّ تابع رسالة الدكتوراه في فلسفة القانون وموضوعها “الإسلام والعلمانية- دراسة مقارنة”. وعمل محامياً بالاستئناف، وكان من مؤسّسي الفرع الثالث لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية عام 1979.
أسّس الشيخ ميقاتي “جمعية الإصلاح الإسلامية” وترأسها منذ 1977 حتّى وفاته الشهر الماضي. ثم بنت الجمعية “مجمّع وثانوية الإصلاح الإسلامية” وأوّل مؤسّسةٍ جامعية إسلامية، وأوّل كلية للشريعة والدراسات الإسلامية في لبنان: “معهد طرابلس الجامعي للدراسات الإسلامية. وتولّى رئاسة “مجلس أمناء جامعة طرابلس”، التي خرّجت نخبة من علماء طرابلس وخطبائها ومدرّسيها وفي طليعتهم أمين فتوى طرابلس الشيخ محمد إمام، إضافة إلى مئات الخرّيجين والخرّيجات من ثلاثين دولة حول العالم، من الصين إلى المغرب.
وكان الشيخ ميقاتي “الأمين العام للمؤتمر التربوي الإسلامي” و”المؤتمر الإسلامي للشريعة والقانون” في لبنان، فقاد حملة إعادة التعليم الديني إلى المدارس الرسمية بعد إلغائه من المناهج الجديدة على مدى ثلاث سنوات (1996- 1999). وقد وقف ضدّ إقرار قانون الأحوال الشخصية للزواج المدني في العام 1998.
تميّز الشيخ ميقاتي بجرأته في مقاربة الحقوق وبتفانيه في العمل المؤسسي الخيري والتربوي والجامعي والدعوي، فتمتـّع باحترام وثقة القيادات السياسية والدينية له في لبنان والخارج سواء من المسلمين أو المسيحيين
لم يقتصر نشاط الشيخ رشيد ميقاتي على لبنان، بل كان عضواً مؤسِّساً لـ”هيئة علماء المسلمين” في لبنان، وعضوَ “رابطة الجامعات الإسلامية” (مقرّه القاهرة)، وعضوَ “اتحاد جامعات العالم الإسلامي” (الأيسيسكو)، وعضو “الهيئة التأسيسية في المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة” في القاهرة، وعضو “الندوة العالمية للشباب الإسلامي” في الرياض.
تميّز الشيخ ميقاتي بجرأته في مقاربة الحقوق وبتفانيه في العمل المؤسسي الخيري والتربوي والجامعي والدعوي، فتمتـّع باحترام وثقة القيادات السياسية والدينية له في لبنان والخارج سواء من المسلمين أو المسيحيين، وهو ما يظهر في استعراض سيرته ومسيرته الشخصية والمؤسساتية، فكان قامة وطنية جامعة.
حثّ الشيخ ميقاتي أولاده الخمسة على الجمع بين دراسة الشريعة الاسلامية وتخصّص آخر كالحقوق والإعلام والصيدلة والعلوم، بما يمكّنهم من إتمام رسالته العلمية والدعوية ببصيرة واعتدال.
ابتُلي الشيخ ميقاتي بمَرضٍ عُضال في السنوات الأربع الأخيرة من عمره، وتوفي مساء 8 نيسان 2020، وصُلّي عليه في “مجمع الإصلاح الإسلامي” حيث ووري الثرى بحضور حشد غفير من العلماء والدعاة والمربّين.
غاب الشيخ محمد رشيد ميقاتي، لكنّه ترك وراءه صرحاً علمياً ودعوياً هو “مجمّع الإصلاح”، يواصل حمل الرسالة الإسلامية بروح الاعتدال والانفتاح، وهو الذي تصدّى للاعتداء على المسيحيين في طرابلس عام 1975، وأجرى مناظرة كبرى مع من أفتى بهذا القرار، ليوقف مجزرة كانت محقّقة، فكان هذا تعبيره المبكّر والمستمرّ عن تجلّيات العيش الواحد مع الشركاء في الوطن.
[PHOTO]