قبل سنوات قليلة من الحرب العالمية الثانية، عام 1936، أسّس راشد توفيق الحوري وجميل الرواس ومصطفى الشافعي “جمعية البرّ والإحسان”. وتميّز نشاط هذا الثلاثي بأنه صفّر المشاكل مع الانتداب الفرنسي. وهذا طبيعي، فهم لم يلتحقوا أصلاً بحركة لورانس، ولم يرتبطوا بأيّ طرف بريطاني. بل انزووا بالطريق الجديدة مهتمّين بأعمالهم الخاصة مع متابعة عملهم الاجتماعي بعيداً عن التصارع حتّى مع السياسيين السنّة، كما حصروا أولوياتهم بالتعليم في محيطهم الجديد.
عَصَمَتهم بداياتهم الآتية من تربيتهم البيتية مع أخلاقهم وحبّهم لمجتمعهم وشجاعتهم وفراستهم (الفراسة: معانٍ تهجم على النفس بلا مقدّمات فينكشف لصاحبها ما لا ينكشف لغيره – الجرجاني كتاب العريفات). وأضاف زمانهم المفصلي، ومكان إقامتهم، والأهم حضور أهاليهم فيه، حوافز محرّكة لهم، فأنتج لهم، من خلال مسيرتهم بالتعلم والمشاركة بالحرب، وعياً بتحديد أولويات أهدافهم.
إقرأ أيضاً: توفيق راشد الحوري (1/2): العمل السرّي من أجل فلسطين
سار على هذا المنهاج الثلاثة المذكورون كنواة تأسيسية لـ”جمعية البرّ والإحسان”. فشاركوا مع “جمعية المقاصد الإسلامية” في بناء مدرسة عمر بن الخطاب الفاروق عام 1930. وأكملوها بمسجد مقابلها هو مسجد الإمام علي بن أبي طالب. وساهموا ببناء “المستشفى الإسلامي، مستشفى المقاصد الذي تبرّع بأرضه أحد البيارتة وهو من آل بيضون. كما تبرّع نسيبهم سعد الدين الحوري المقيم في القاهرة ببناء مدرسة عائشة أم المؤمنين في مكانها الحالي المعروف حينها باسم “حارة اليهودي” وقدّمها إلى “المقاصد”.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وما ترتب على نتائجها من إعلان قيام دولة إسرائيل والنكبة الثانية التي تلقتها الولايات العثمانية العربية الشمالية، بدأت تصل تباعاً إلى بيروت أمواج المُهَجّرين من أبناء ولاية بيروت العثمانية سابقاً، وحصل تطوّر جديد بمنطقة طريق الجديدة فربطها بالقضية الفلسطينية ربط تعايش يومي.
تضاعف سكان بيروت من ربع مليون مطلع القرن العشرين إلى نصف مليون، وصاحبه انقلاب نظام العمارة وتمدّده باتجاهات تفرضها طبيعة إحاطة البحر بالمدينة والتصاقه بها من جهاتها الثلاث. فغابت الدار الواسعة التي تتصدّرها غرفة الأب أو الجدّ في طرائق سكن العائلة ودعت الضرورة إلى مأوى يعتني بالأهل في عجزهم. فدعم الحاج حسين العويني “الجمعية” في مشروعها لتأسيس مأوىً للعجزة. كما دعم الشهيد رياض الصلح “الجمعية” في مشاريعها التي أقامتها بشراكة مع وزارة التعليم، فكان بناء “ثانوية الرواس” و”ثانوية البنات”. أرض الأولى كانت سكن جميل الرواس وأرض الثانية كانت سكن مصطفى الشافعي. لم يكن يتوفّر للجمعية كوادر تعليمية لإدارة المدارس أو ربما لم ترغب في الحلول محلّ الدولة بالتعليم على غرار مدارس “الجزويت” (الرهبانية) أو غيرها.
على أنّ أهم انجاز لـ”جمعية البرّ والإحسان” هو جامعة بيروت العربية. فكيف تأسست؟
على فترات متقطعة كان يحدثني الحاج توفيق عن تأسيسها (الجامعة) وعن دور الشيخ فهيم أبو عبيه رئيس البعثة الأزهرية في لبنان، لا في تأسيسها فقط، بل في إبعاده عن طرابلس التي نشط فيها الداعية الإسلامي مصطفى السباعي (مؤسس “الإخوان المسلمون” في سوريا).
فهيم أبو عبيه وتأسيس جامعة بيروت العربية
يقول توفيق الحوري: “كانت الجمعية ترغب في بناء ثانوية للبنات وتسليمها للدولة، فاقترح علينا الشيخ فهيم أبو عبيه أن ننشئ بدل الثانوية جامعة، ونبقيها ضمننا، كيف؟ أجاب: بدعم من مصر وجمال عبد الناصر. وكانت “جمعية البرّ والإحسان” قد اشترت أرض الجامعة من مالكها بموجب “هدايا فرنسا” الذي حصل عليها كهدية من الفرنسيين نظير خدماته لهم ، السيد هنري فرعون الذي رحّب برغبة الجمعية ببناء ثانوية للبنات وتقديمها للدولة على غرار “ثانوية البرّ والإحسان”، فتساهل بعد التوسيطات مع أصحاب اسطبلات خيول السباق ومربّيها وتساهل بالسعر وطريقة الدفع بالضمانة الشخصية لاسم راشد الحوري. فنقده نصف المبلغ المجموع سلفاً لمشروع الثانوية والثاني من المفروض أن يتوافر خلال سنتين. لكنهم وُفّقوا بالتبرّعات، وتمّ تسديد الباقي خلال سنة وباشروا العمل على الترخيص. فبناء الثانوية للبنات تسارع بغرفة تبرّع بحجارتها من هذا، وتبرّع بلاط للممرّ من ذاك أو تبرّع من زوجة الباشا شاتيلا بموادّ غرفتين أو ثلاث عن روح ” الباشا”. وهكذا، نشط جميع افراد الجمعية المشاركين في تأسيسها من آل العدو أو صبرا أو الدنا بالتبرّع من مالهم وجمع التبرّعات لثانوية البنات. هي حملة شبيهة بحملة التبرع لبناء الأسطول العثماني أو مدّ خط سكّة الحجاز التي باعت نساء العياتنة والبيارتة عموماً ذهبها لتحقيقها.
دارت فكرة الجامعة برأس الثلاثة، وانتظروا مساعي الشيخ فهيم. وجاء الجواب عبر السفير عبد الحميد غالب أن “لا جامعة ولبنان ليس بحاجة لجامعة كما قال الريس!”. فصرفوا النظر عن الفكرة، وواصلوا مشروعهم في ثانوية البنات. كان هذا في أواخر عام 1956 وبداية عام 1957.
في تشرين الأول من عام 1957، زار الملك سعود بن عبد العزيز لبنان لافتتاح دورة الألعاب الرياضية العربية الثانية بالمدينة الرياضية مع افتتاح خط “التابلاين” والخلية السعودية كما قال لي الحاج توفيق. ومع زيارة الملك سعود لافتتاح الخلية السعودية، توجّه ثلاثي “البرّ والإحسان” ومعهم الحاج توفيق للسلام والترحيب، وعادوا بعد انتهاء الحفل. وإذ يمرّ الشيخ فهيم صوب الحاج راشد ليستطلع منه أخبار زيارتهم، وهنا لمعت فكرة في رأس الشيخ فهيم: “قولوا إنّ الملك سعود وافق على بناء الجامعة، وأنا صباحاً أنقل الخبر إلى السفير غالب.”
خلال يومين، وصلت برقية عاجلة من القاهرة مفادها ما يلي: “إن أرادوا الجامعة فليرفضوا عرض الملك سعود، وليحضروا ثلاثتهم خلال يومين للقاهرة للقاء أنور السادات، نائب الرئيس”.
براعة الشيخ فهيم وحنكته لم تقفا عند هذا الحدّ، بل شرح لهم ماذا يقولون، وكيف يقولون، وإن التقوا بعبد الناصر، فبالأحضان والقبل، وتقديم أنفسهم وتاريخهم. وركّز الشيخ فهيم على راشد بأن يتحدث عن قتاله في الحرب العالمية الأولى ضدّ القوات البريطانية مثلما فعل عبد الناصر، كقائد مدفعية، وعن أسره في معتقل الهسكاب بالقاهرة، وعن عزيز المصري (أستاذ عبد الناصر في الكلية الحربية، وكان عبد الناصر متعلّقاً به). وهكذا ارتاح لهم عبد الناصر كلّ الارتياح، فهم إخوة السلاح، وقاتلوا قبله الاستعمار البريطاني، ولم يلتحقوا مع الشريف حسين، ولمصر عليهم حقّ.
مع منتصف السبعينيات توافرت الظروف لإنشاء “كلية الامام الأوزاعي للدراسات الإسلامية” وتم هذا عام 1979. ثم اُنشئت كلية إدارة الأعمال الإسلامية عام 1986. فأصبحت كلية الإمام الأوزاعي جامعة
اختار عبد الناصر في الجلسة لهم اسم الجامعة، جامعة بيروت العربية، وضمانة شهادتها، بحيث تشرف عليها جامعة الإسكندرية كونها أوّل جامعة بادرت صبيحة 23 يوليو بالخروج تأييداً لحركة الضباط الأحرار، وخرجت بكل أعضاء هيئتها وطلابها إلى قصر المنتزه: “يسقط فاروق، يسقط الملك، يحيا الجيش، يحيا الضباط الاحرار”،على عكس جامعة فؤاد الأول. وكُلّف السادات بمتابعة المشروع عنهم. وفي أيام تمّ تحويل المال إلى حساب باسم الجمعية فتحوه في بنك مصر بلبنان. هذا الحساب استخدم خلال ثورة 1958، لتغطية مصاريف اجتماعية … وأعيد بانتهاء الثورة تعبئته، وتبدّلت رخصة بناء ثانوية إلى بناء جامعة، وافتتحت الجامعة في العام الدراسي 1961.
كان توفيق الحوري يريد أن يفتح في الجامعة كلية شريعة، فحذّره الشيخ فهيم وقال: “لنمرّرها بكلية الآداب تحت مسمّى قسم اللغة العربية. وفي المقرّر هناك سيكون تفسير قرآن، وهناك حديث، وهناك شرح ألفية ابن مالك في النحو لعيسى بن هشام، وهناك مجتمع عربي وحضارة إسلامية.. أما كلية الشريعة فاتركها لبعدين….حين تصير الظروف مؤاتية”.
الحاج توفيق وحركة فتح
حدّثني الحاج توفيق فقال: “كنت في محلّ لي افتتحته بساحة الدباس عام 1959، لبيع المسجّلات والراديوات وبطاريات السيارات، ووظّفت شاباً محاسباً يمسك المحلّ إذا ما دعتني حاجة لمغادرته. (هذا الشاب من بيت الفاخوري وابن عمه المرحوم د. أسامة الفاخوري رئيس المجلس السياسي لبيروت في الحركة الوطنية). قال الحاج: “كنت جالساً قبيل الظهر في المحلّ. دخل عليّ شابان لم أرهما من قبل، وعرّفا عن نفسيهما بأنّهما فلسطينيان مهندسان يعملان في الكويت وقدّما اسميهما: ياسر عرفات، أبو عمار، وخليل الوزير، أبو جهاد. قال أبو عمار إنّهم بصدد التحضير لاستئناف الجهاد لتحرير فلسطين، ويريدان إصدار نشرة سرية اسمها “فلسطيننا”، وحضرا إلى بيروت لتأمين من يتابع موضوع المطبعة واستلامها وتسليم 500 نسخة منها لأشخاص هنا لتوزيعها في النهاية على المخيمات الفلسطينية بعد شحن 1500 نسخة إلى الكويت تحت اسم “كتب ومطبوعات”. هنا كان فاخوري حاضراً، فبادرهما توفيق بالكلام بأنّه ثقة: “تكلّما”. ووعد بمتابعة الموضوع تننفيذياً معه. واستمرّ الأمر على هذا المنوال بالنشرة إلى ليلة 1/1/1965 وإعلان قوات العاصفة بيان رقم واحد مع صدور آخر عدد ل”فلسطيننا” .
خلال تلك الفترة، صار الفاخوري محلّ ثقة أبي عمار الذي كان يتردّد على بيروت، وتابع وأبو جهاد منفردَين موضوع السلاح وتأمينه. وكان الخيار الأوّل للحاج توفيق هو الاتصال بولي عهد ليبيا للحصول على شحنات سلاح منه، وخياره الثاني إنزال السلاح قرب طرابلس-البداوي. وكان من ضمن فريقه عبد اللطيف العويني ومحمد علي عضّام. وأدخل الأخير كاتب هذه السطور معهما، فراقني عبد اللطيف العويني أكثر، سيما أنّه كان آتياً ذاهباً إلى لندن حيث في واجهات مكتباتها حينها تعرض كتب جامعية وأبحاث لطلاب دراسات وكتب أشغال مناجم وتصنيع، ما يلزم المناجم من مستحضرات حوامض لم أعد أتذكر أسمائها.
تأسيس كلية الإمام الأوزاعي
مع منتصف السبعينيات توافرت الظروف لإنشاء “كلية الامام الأوزاعي للدراسات الإسلامية” وتم هذا عام 1979. ثم اُنشئت كلية إدارة الأعمال الإسلامية عام 1986. فأصبحت كلية الإمام الأوزاعي جامعة. لكن للأسف لم يتوفّر للكلية ما توفّر لجامعة بيروت العربية من ظروف، فبقيت غريبة مع أنّها “أم الصبي”. ومن حيث الإنتاجية الأكاديمية، فقد نوقش في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية حتى نهاية العام 2019، 235 أطروحة دكتوراه و526 رسالة ماجستير، ونوقش في كلية إدارة الأعمال الإسلامية 28 رسالة ماجستير.