هو هدوء ما بعد العاصفة، وأيّ عاصفة هي أشدّ في مقام رفيع تداوله الكبار، مذ تأسيس الكيان! هذا لا يعني إطلاقاً، أنه السكون. بل قد يكونُ هو هدوءَ ما قبل العاصفة، في زمن انحدارٍ لا ينتظر. الكُلّ يرمق هذا المقام ومن يشغله في كلّ آن. والناس تتطلّع إليه وتتأمّل، وصاحب المقام أدرى بما يحتمله هذا المنصب من عِبء وثِقل. هذه باختزال، حيثية العلاقة المعقّدة، المضمرة حيناً، والمعلنة حيناً آخر، بين الرئيس الديني للطائفة، وبين جمهور هذه الطائفة التي تأبى إلا أن تكون أمة!
من هنا، عِظَم المهمّة من طرف، وكِبَر التوقّع من طرف آخر. قليلاً ما يلتقي خطّان متعرّجان في أحيان وأحيان، لكن يكفي الالتقاء مرة واحدة في لحظة وجودية مصيرية، حتى ينقلب كلّ شيء ويتبدّل. ويبقى هذا هو الرهان. أن ينطلق زخمٌ من دار ذات اعتبار، فتنشر الأمل في كلّ الدُّور، وتبدأ مرحلة الصعود من جديد، من الوهدة العميقة التي يرزح فيها الواقع، إلى حيث ينبغي أن يكون.
إقرأ أيضاً: المفتي الشيخ حسن خالد (2/1): الشخصية والرسالة والخير العام
سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، فيه كلّ المواصفات الضرورية لتحمّل ما يقتضيه الموقع والمقام. لكنها أولاً وآخراً مهابة المنصب، وتهيّب المسؤولية. وهذا ما يجعله يحذر الخطأ، ويحاذر الوقوع بخطوة متعثّرة في حقل أشواك. هل هو مزيد تعقّل بالعواقب أم فائض تحكّم في المشاعر؟
في آخر النظر والاعتبار، يبقى هو ابن المرحلة التي ارتقت به في سلّم المسؤولية، وقد صعد إليها درجة بعد أخرى. ابتداء من الإدارة العامة لمؤسسات محمد خالد الاجتماعية عام 1987، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ثم أمين سر المفتي الشهيد حسن خالد في العام التالي. وهو إذاً ليس غريباً عن دار الفتوى ولا جديداً فيها. بل كان في الإطار، وداخل الحلقة الضيقة، وخلف الستار، قبل أن يحمله المشهد فيصبح في بؤرته الحارقة بنوره الوهّاج، وهو الذي لم يعتَدْ على الأضواء.
في المجال العلمي كما في المجال العام، يؤثِر التخصّص والتعمّق على التعدّد في الاهتمامات. فهو اختار فقه المواريث تحديداً، فأبدع فيه تعلّماً وتعليماً على ما يشهد له طلّابه، مع أنه العلم الأسرع في اندثاره بين الناس، وأول ما يُنسى. وفي مجال أوسع، يحرص المفتي دريان على مجاله الخاص به، فلا يتدخّل خارجه إلا في أضيق معنى، وهذا هو منهجه.
ليس سهلاً على أيّ مُفتٍ للجمهورية اللبنانية أن يتحمّل مسؤولية كبرى، ينص عليها المرسوم الاشتراعي رقم 18 لعام 1955، وتعديلاته اللاحقة. وإن الصلاحيات المنوطة بسماحة المفتي واسعة وشاملة برعايتها مجمل المؤسسات الدينية الرسمية وكذلك الجمعيات والمراكز الإسلامية، فضلاً عن المسؤولية العامة الدينية والمعنوية بإزاء الجمهور الإسلامي والعلاقة فيما بين الطوائف. لذلك، فإن السؤال بقدر المسؤول عنه، والمراجعات على قدر الصلاحيات. لكن المسألة الحيوية تبقى هي نفسها: هل تملك دار الفتوى، وسماحة المفتي استطراداً، الإمكانيات الكافية لإدارة طائفة كبرى في لبنان؟ وهل ثمة استضعاف لهذه المؤسسة الجامعة قبل أن نقرّر إن كانت ضعيفة مادياً؟ وهل قطاع الوقف الإسلامي المنتشر في كل لبنان، إمكانٌ من الإمكانيات المتاحة للنهوض والاستنهاض؟ جوانب عدة من هذا الواقع المأزوم يتردّد صداها على مسامع كلّ مُفتٍ شغل هذا المقام، وتتكرّر الاستفهامات على مرّ الأيام وكرّ السنين.
مقلّ بالكلام، وإذا تكلّم كان موزوناً، وكلماته محسوبة بدقة. لا ينفعل، ولا ينجرّ بسهولة إلى ما يريده الآخرون دون تدبّر بالمآلات، أو تمحيص للاحتمالات
وعلى الرغم من أن مقام الإفتاء هو منصب ديني في جوهره، ومعروفة وظيفته تاريخياً، في المجال الإسلامي العام، إذ لم يكن منصباً رسمياً إلا في العهود المتأخرة من الدول الإسلامية، إلا أن التداخل واقع بين الإفتاء والسياسة مهما بُذلت الجهود للفصل الصارم. وهذه الإشكالية تحديداً، هي ما جعلت الصراع الصامت بين مفتي المسلمين وزعيمهم السياسي، سمة رائجة من جيل إلى جيل. فأصبح موقع المفتي، بالغ الحساسية، فضلاً عما ينطوي عليه من صلاحيات قد تبدو متضاربة مع نفوذ الزعيم الذي يريد الاستحواذ على القرار السني بكل مندرجاته، وصولاً إلى المجال الديني. لكن مفتي الجمهورية يُقدم غالباً حين يتراجع السياسي، ويتصدّى للواقع حين يتخاذل السياسي أو يضعف أو ينزوي عن الخطر. والمفتي دريان شاهد على التجربة الغنية للشيخ الشهيد حسن خالد، والتي جعلت منه رأساً للطائفة، وغطاءً للوطن، في أصعب الظروف وأدقها، خلال شطر واسع من أيام الحرب الأهلية، فتلقّى الخطر بصدره، وذهب شهيداً. وكان كذلك قريباً من خلفه الشيخ محمد رشيد قباني الذي كان عليه أن يلتقط الكرة الملتهبة من سلفه الشهيد. ولعلّ بقاءه قائماً بمقام الإفتاء سنوات بعد ذلك (1989-1996)، قبل اختياره مفتياً للجمهورية، أبلغ مؤشر على الصراع الصامت بين المجالين السياسي والديني، وهذا ليس حكراً بالمناسبة على المقام الإسلامي السني، فكل المقامات الدينية الرفيعة لدى الطوائف، تواجه مثل هذا التحدّي إلى هذه الدرجة أو تلك، ويكون الحاصل نتاج توافق ما، أو تظهيراً لتوازن قوى معيّن في لحظة محدّدة.
هذه التوازنات المرهفة، والحدود الرمادية بين المجالين، بل لنقل إن التداخل في الصلاحيات وفي القوى الواقعية، يُدركها المفتي دريان جيداً، محاولاً الإمساك بالحبل من منتصفه، أي في العلاقة المفترضة بين قطاعين منفصلين نظرياً، مع أنه حاسم في خياراته داخل الطائفة، فمن يملك الثقل الأكبر فيها، هو معه، من باب التسليم بالأمر الواقع، وتجنّب الفتن.
ومع ذلك حين يبدو أنه بعيد كلّ البعد عن السياسة وتقلّباتها، يفاجئ في لحظة دقيقة فيصبح هو الحدث. مقلّ بالكلام، وإذا تكلّم كان موزوناً، وكلماته محسوبة بدقة. لا ينفعل، ولا ينجرّ بسهولة إلى ما يريده الآخرون دون تدبّر بالمآلات، أو تمحيص للاحتمالات. قد يكون هذا أبعد ما يكون عن المزاج الشعبي المتحرّق في أيام عصيبة. لكن الشيخ عبد اللطيف دريان الذي عاصر المفتي الراحل الشيخ حسن خالد فكان أمين سرّه، ورافق المفتي السابق محمد رشيد القباني فكان أمين سرّه الخاص، يدرك تماماً جسامة موقعه دينياً كما سياسياً، وإن كان ثمّة من جادل وسيظلّ يجادل دون هوادة بأنه لا يحقّ لرئيس طائفة أن يتدخّل فيما ليس هو من شأنه، من جوانب الشأن العام ومجالاته. من هذا المنحى، لا تزال ذكرى المفتي حسن خالد طريّة في بال أجيال، وهو ملأ الفراغ الوطني، وتقدّم الصفوف، ونال شهادة عزيزة، وربما كانت تجربته عبرة، كما قد تكون منارة، ولكل زمن مواقف ورجال.
إن موقع سماحة المفتي طوال عقود من الاضطراب الوطني الصاخب، أتاح له أن يعلم كثيراً من الخفايا وما وراء السطور، وذلك بحكم قربه من دائرة الأحداث، وكذلك من مركز القرار. فهو ابن دار الفتوى قبل أن يكون سيّدها. يعي توازنات القوى، ومدى تأثيرها في الواقع. وهو يدري كذلك، مخاطر الموقف ومآلات الكلمة، إن لم يكن الموقف مستنداً إلى حكمة، وإن لم تكن الكلمة مجبولة بالتروّي. لذلك يُعرف بالاعتدال في الخطاب، وهدوء اللهجة. بل يقول عنه بعض عارفيه إنه يعالج كثيراً من المواقف التي يواجهها، بالصمت. وكثيراً ما يكون الصمت بليغاً، في موقعه وفي موضعه، وفي سياق معلوم للقاصي والداني. ثم يكون الكلام هو البلاغ الأرفع، في موقعه المناسب كذلك، وبالأسلوب المناسب، وفيما يلائمه من زمان.