هل بوسع مصرف لبنان فعل شيء غير “ليلرة” الودائع التي هي بالدولار، مع توقف البنوك تماماً عن تسليم الدولار؟
ما هو واضح أن مصرف لبنان لم تعد لديه أسلحة كثيرة للدفاع عن الليرة. فبحسب الرقم الذي ذكره حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أخيراً، لا تتجاوز السيولة المتاحة لديه بالعملات الصعبة 20.9 مليار دولار، من ضمنها احتياطات إلزامية مقابل الودائع في القطاع المصرفي بنحو 17 مليار دولار. أي أنّ المتاح لديه من الاحتياطات يقلّ عن أربعة مليارات دولار، وهو ما يعادل واردات بضعة أشهر فقط (بلغت الواردات اللبنانية في كانون الثاني نحو 1.15 مليار دولار).
إقرأ أيضاً: ماذا يمنع الدولار من تجاوز 1.000.000 ليرة؟ (1/2)
وقد ذكر سلامة رقماً مخيفاً لحجم العجز في الحساب الجاري خلال السنوات الخمس الماضية، يتجاوز 56 مليار دولار، أي بمعدّل يفوق 11 مليار دولار سنوياً. هذا المعدّل، إذا استمر، يعني أنّ الانهيار التام لليرة واردٌ خلال أشهر قليلة.
الفرصة ملائمة الآن لخفض سعر الدولار واستعادة مصرف لبنان زمام المبادرة في إدارة تمويل الاستيراد
غير أنّ بعض التطوّرات قد تخفّف شيئاً من الضغوط في الأجل القريب. أولها أنّ الاتجاه الانكماشي للاستيراد والاستهلاك خفّف الضغط على ميزان المدفوعات. ففي الشهرين الأولين من السنة الحالية، كانون الثاني وشباط، تقلّص العجز في الميزان التجاري بنحو 804 ملايين دولار عن الفترة نفسها من العام الماضي، أي بنسبة 36%، كما تقلص عجز ميزان المدفوعات خلال هذه الفترة بنسبة 74% على أساس سنوي، ليتوقف عند 505 ملايين دولار. وقد يكون العجز تقلّص أكثر في آذار ونيسان مع بدء ظهور مفاعيل أزمة كورونا، إذ إن فاتورة المحروقات والفيول لمحطات الكهرباء انخفضت بشكل كبير بسبب انخفاض أسعار النفط بما يقارب الثلثين، وتراجع الاستهلاك نتيجة إجراءات الحجر المنزلي وتعطّل حركة الطيران، لكن مع الأخذ في الاعتبار أن تدفقات العملة الصعبة الواردة تعطلت أيضا.
وإذا ما نجحت الحكومة في الحصول على تمويل عاجل من صندوق النقد الدولي، بنحو 860 مليون دولار، (ليست من ضمن البرنامج التمويلي الذي سيبدأ التفاوض عليه لاحقاً)، فإن ذلك يمكن أن يخفّف شيئاً من الضغط عن الليرة، ولو لبعض الوقت.
الحاجة ملحة لإخراج الصرافين من وظيفة تمويل الاستيراد وحصرها بمنصة مصرف لبنان والبنوك
يقود ذلك إلى الاستنتاج أنّ الطلب المرتبط بتمويل الاستيراد، وإن يكن مصدر استنزاف دائم للعملة الصعبة، إلا أنه قد لا يكون السبب الرئيس للارتفاع السريع للدولار في الأسابيع الأخيرة، بل الطلب المحلي من المواطنين الهادف لحفظ قيمة المدخرات التي سُحبت من البنوك. لكن المشكلة أن التمييز بين الطلبين صعب في الظروف الراهنة، لأن كليهما يتجه إلى سوق الصرافة، ويضخّم دور الصرافين ونقيبهم الموقوف.
هل من حلّ لتخفيف هذا التشوّه، والفرز بين الطلبين؟
نعم، هناك ما يمكن فعله، ولو أنّ له أكلافاً مؤلمة.
1- قد تكون موافقة صندوق النقد الدولي على القرض العاجل هي اللحظة الملائمة لاستعادة مصرف لبنان زمام المبادرة، من خلال خفض سعر الصرف الرسمي إلى ما بين 3000 و3500 ليرة، لتخفيف تكلفة استيراد المواد الأساسية على مصرف لبنان.
2- تمويل ما تبقى من الاستيراد عبر المنصّة التي أنشأها مصرف لبنان، من خلال وحدات مستقلّة للمتاجرة بالعملات تنشئها البنوك، وليس من خلال الصرافين، بهامش معقول عن السعر الرسمي، لا يتجاوز العشرين في المئة. الغاية من ذلك إخراج الصرافين نهائياً من وظيفة تمويل الاستيراد، سواء كانوا من الفئة “أ” أو الفئة “ب” أو من الدكاكين غير المرخصة، لأنّ سوق الصرافة ليس منظّماً بالقدر الكافي، ولأنّه لا ينبغي أن تكون وظيفته تمويل الاستيراد.
3- تفعيل شبكة الأمان الاجتماعية لحماية الفئات الأكثر تضرّراً من ارتفاع أسعار المواد الأساسية وخاصّة موظّفي القطاع العام والعائلات الأكثر فقراً.
عندما يستعيد مصرف لبنان زمام المبادرة في إدارة تمويل الاستيراد، يعود سوق الصرافة تدريجياً إلى حجمه ودوره الطبيعيين، ولا يظلّ الطلب المحلي على الدولار في السوق الموازية مقلقاً. وقد تكون الفرصة ملائمة الآن لفعل ذلك في ظلّ تراجع فاتورة الاستيراد.
عجز ميزان المدفوعات بنسبة 74% في كانون الثاني وشباط، حتى قبل أن تأخذ أزمة كورونا مداها
في المدى القريب، سيتحمّل المواطنون ثمناً قاسياً لخفض سعر الصرف الرسمي، لكنّه أقلّ كلفةً من التوسّع في سياسة تحويل الودائع الدولارية إلى الليرة. وفي المدى الأبعد لا أمل باستقرار نسبي لسعر الصرف من دون الدخول في برنامج تمويلي مع صندوق النقد الدولي، يؤهّل الدولة للتفاوض مع الدائنين الأجانب، والعودة إلى سوق الدين خلال عامين أو ثلاثة.
هكذا انهار سعر صرف البوليفار الفنزويلي: