“عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? لِمَكَّةَ: مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ”. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ).
ما كانت الهجرة يوماً سهلة، فترْك الديار ومفارقة الأحبّة قرار صعب جدّاً، مهما كانت الظروف والدوافع. ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة، فعلى الرغم من الصعوبات التي واجهها من أهل مكّة أثناء الدعوة، ومن أنّ الهجرة المباركة كانت بأمرٍ ربّانيّ، إلا أنّ الرسول استصعب الأمر كثيراً، حسبما هو مبيّن في الحديث الشريف أعلاه.
من العزاء إلى الثناء
في لبنان، الأرض الطاردة لأبنائها، والتي اشتهرت بموجات الهجرة الكثيفة حتّى قبل تأسيس لبنان الكبير، كان الأهل في سالف الزمان يُقيمون عزاءً عند هجرة أحد الأبناء أو البنات. ومع دخولنا عصر العولمة، وانتشار الإنترنت، وسهولة التواصل مع الأبناء في المهاجر، خَفُتَتْ حدّة الحزن، إلا أنّ الغصّة بقيت، ومعها محاولات الآباء والأمّهات اليائسة لثني الأبناء عن الرحيل.
في الأسبوع الماضي عادت قضية الهجرة غير الشرعية إلى التداول الإعلامي، لكن بخجل شديد، غداة انتشار خبر غرق قارب على متنه 83 شخصاً، غالبيّتهم من اللبنانيين من أبناء عكار وطرابلس
كلّ ذلك بات من الماضي، فاليوم الأهل هم الذين يحضّون أبناءهم وبناتهم على الارتحال، ويفعلون ما في وسعهم لمساعدتهم، عبر بيع أرض أو عقار أو مصاغ، من أجل تكوين الرصيد الماليّ المطلوب من قبل بعض البلاد شرطاً لقبول طلب الهجرة، ولسان حالهم يقول: هذه الأرض لم تعد قابلة للعيش، ومن يُرِدْ خيراً لأبنائه فليدلّهم على باب الخروج.
كلّ ما تقدّم يبدو مقبولاً في ظلّ الانهيار، لكنّ المرعب أن يرى الأهل أبناءهم يركبون البحر، ويهاجرون عبر قوارب مترهّلة، غير شرعية، مُثْقلة بحمولة بشرية تفوق قدراتها، واحتمال الموت يوازي، بل ربّما يفوق، احتمال النجاة والوصول إلى المنتهى المجهول، من دون أن يستطيعوا ردعهم أو ثنيهم عن ذلك، حتى إنّ بعضهم يوافق ويشجّع الأبناء على مثل هذه الخطوة.
وعند سؤال واحد منهم كيف تشجّع أولادك على الموت، يردُّ مباشرة: “وهل نحن أحياء في هذا البلد؟ نموت كلّ يوم مئة مرّة، فليهاجروا عبر البحر، ربّما يصلون إلى دولة يعيشون فيها عيشة البشر، وإن لم يصلوا يكونوا قد تخلّصوا من هذا العذاب المستمرّ”.
غياب الاهتمام الإعلاميّ
والحال أنّ الهجرة من لبنان قضيّة لا ينقطع ذكرها في وسائل الإعلام، وعلى صفحات الجرائد والمواقع، المحلّيّ منها والعربي والدولي. وكلّما ازدادت الأزمة الاقتصادية والمعيشية عصفاً وعسفاً، ارتفعت حدّة الهجرة التي طالت جميع الطوائف والمدن والأرياف، وقلّما توجد عائلة لبنانية اليوم لم يتغرّب أحد أبنائها أو يكاد.
ولهذه الهجرة أوجهٌ عديدة، وسبلٌ كثيرة، إحداها الهجرة غير الشرعية، وهي أكثرها قساوة ومأساويّة، وتتركّز في الشمال، في طرابلس وعكار وما بينهما. ما يلفت الانتباه أنّ هذه الظاهرة لا تحظى باهتمام إعلامي محلّيّ إلا وقت حدوث فاجعة أو مأساة.
ما كانت الهجرة يوماً سهلة، فترْك الديار ومفارقة الأحبّة قرار صعب جدّاً، مهما كانت الظروف والدوافع
ففي الأسبوع الماضي عادت قضية الهجرة غير الشرعية إلى التداول الإعلامي، لكن بخجل شديد، غداة انتشار خبر غرق قارب على متنه 83 شخصاً، غالبيّتهم من اللبنانيين من أبناء عكار وطرابلس، قبالة السواحل اليونانية، حيث ساد القلق والخوف والترقّب لدى ذوي المفقودين، إلى أن تبيّن أنّ الشبّان هم في عهدة الأمن التركي، الذي أودعهم أحد مخيّمات اللاجئين، بعدما منعتهم السلطات اليونانية من النزول على برّ إحدى جزرها.
أعادت تلك الحادثة إلى ذاكرة مدينة طرابلس الممتلئة بالمآسي ذكرى الضحايا الذين ابتلعهم البحر في أيلول من العام 2020، والذين حظوا باهتمام إعلامي عربي ودولي فاق نظيره المحلّيّ، الذي لم يمنح القضية سوى حيّز ضئيل من التغطية، مغلّف بالاقتضاب ويغلب عليه طابع الرثاء.
وما بين الحادثتين، قوارب كثيرة خرجت من الشواطئ الشمالية، بعضها كان لها الجيش بالمرصاد، والكثير منها استطاعت الخروج من المياه اللبنانية وتابعت الطريق صوب المجهول، وما اهتّم بها أحد.
اليأس من الوطن
قوارب الموت هذه، أو الهجرة غير الشرعية، ليس سببها الفقر وحده، بل القضية أعمق من ذلك بكثير. فلبنان لم يكن قبل انهيار عملته واحةً للازدهار والعمران، أو عنواناً للرفاهية، وتصنيف طرابلس واحدةً من أفقر مدن حوض المتوسط سابقٌ للانهيار بسنوات.
ينبغي التدقيق مليّاً في دوافع هؤلاء الناس التي تحملهم على المخاطرة بأرواحهم وأرواح فلذات أكبادهم، ولا سيّما أنّه عند التدقيق في هذه الظاهرة، نجد أنّ بينهم أُناساً لديهم أعمالهم ومداخيلهم الشهرية المعقولة. فما الذي يدفع هؤلاء إلى مثل هذه الخطوة الخطيرة التي يصرّون عليها على الرغم من معرفتهم بما يحيط بها؟
ما الذي يدفع شخصاً إلى ترك عمله الخاصّ، على الرغم من أنّه كان يوفّر له ولعائلته مدخولاً محترماً، من أجل ركوب البحر بأمواجه العاتية؟
ما الذي يدفع عروساً عُقِدَ قرانها منذ أسابيع قليلة إلى أن تستعدّ مع عريسها لقضاء شهر العسل على متن قارب صغير تتقاذفه الأمواج والأنواء العاتية كأنّه لعبة، مع أنّ العريس لديه عمله ومدخوله وشقّته؟
ما الذي يدفع موظفاً في شركة خاصّة إلى ترك عمله، الذي يدرّ عليه مدخولاً مُعْتبراً، حتى في هذه الأيام العصيبة، من أجل أن يمشي على قدميه لساعات وأيّام، ومن غابة إلى أخرى، معرِّضاً نفسه وعائلته للهلاك برصاص حرّاس الحدود؟
عشرات العائلات سلكت هذا الدرب الوعر والمحفوف بالموت من كلّ طرف، وعشرات أخرى تستعدّ وتتحيّن اللحظة المناسبة لتحذو حذوها. مَن يصل سالماً، يصبح دليلاً لِمَن بقي على أرض لبنان، في كيفيّة اجتياز العوائق وتقدير صعوبتها.
اليأس هو السبب الأساس الذي يدفع الشباب والرجال والنساء، وعائلات بأسرها، إلى بيع كلّ متاعها، ودفن ذكرياتها وماضيها، والمضيّ نحو المجهول، بحثاً عن الفردوس المفقود
ومَن فشل لم يستسلم، بل بات أكثر إصراراً من ذي قبل، مثلما هو الحال مع شبّان المركب المشؤوم إيّاه في العام الماضي، الذين عاشوا الموت لأيّام وليال، وشاهدوا رفاق الدرب يتساقطون أمام أعينهم، لكنّهم ما انفكّوا يعيدون المحاولة مرّة أخرى.
ليس الفقر وحده هو السبب، إنّما اليأس هو الدافع الأبرز، والعنوان الأكبر، والعامل المشترك بين كلّ تلك الفئات التي اختارت هذه المغامرة، كي تخرج من أتون هذا الجحيم المستمرّ. فلا أمل في العيش على هذه الأرض بالنسبة إلى الغالبية، أو حتى الجميع.
إحدى صور هذا اليأس في طرابلس مثلاً، ظهرت في الانتخابات النيابية الماضية عام 2018، مع تدنّي نسب المشاركة في الاقتراع، التي ما بلغت 40%، على الرغم من كلّ التحشيد والتجييش والأموال. وإذا اعتبرنا أنّ نسبة المهاجرين والعاملين في الخارج وقتذاك كانت 20%، فهذا يعني أنّ نصف أبناء المدينة يائسون، ولذلك أحجموا عن المشاركة.
تطوّر هذا اليأس مع الوقت، وأصبح حالة عميمة: اليأس من البحث المستمرّ عن الأمن والأمان، والعيش الكريم، ومطاردة الأدوية والمحروقات وسائر الموادّ، واليأس من إمكانيّة العيش كمواطنين محتملين في وطن مستحيل.
اليأس هو السبب الأساس الذي يدفع الشباب والرجال والنساء، وعائلات بأسرها، إلى بيع كلّ متاعها، ودفن ذكرياتها وماضيها، والمضيّ نحو المجهول، بحثاً عن الفردوس المفقود.
البحث عن الفردوس
وإذا كان كلّ مَن قرّر الهجرة من هذا الوطن يسعى إلى الفردوس، إلا أنّ هذا الفردوس ليس واحداً لدى الجميع، بل متغيّر، فلكلّ مهاجر فردوسه الذي يحلم به ويسعى إليه.
يبحث رجل الأعمال عن بيئة استثمارية وأسواق جديدة تدرّ عليه الأرباح والملايين. والمتخرّجون الجدد يبحثون عن وظائف تمنحهم رواتب تليق بشهاداتهم. أمّا المهاجرون غير الشرعيين، فهم يبحثون عن أشياء بسيطة جدّاً، فأقصى أمانيهم أن يكونوا مواطنين عاديّين فقط، ولا يريدون شيئاً آخر، لا أموالاً ولا جاهاً، وهذا هو فردوسهم: يريدون العيش في أمان، حيث يستطيعون التنزّه مع عوائلهم، والذهاب إلى حديقة عامّة كي يلهو فيها الأطفال، بعيداً عن أزيز الرصاص الذي صار خبزنا اليوميّ في لبنان. يحلمون بأن يغذّوا السير في الشوارع والأزقّة من دون خوف من سكّين نشّال، أو متسكّع تركته الأجهزة الأمنية يتسلّط على رقاب الناس، فصار البلد ينام عند المغرب.
إقرأ أيضاً: “فورين بوليسي”: 77% من اللبنانيين يريدون الهجرة
يقول الخليفة الراشديّ الرابع عليّ بن أبي طالب إنّ “الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن”. والحال أنّ الفقر المقصود ليس قلّة المال فقط، بل الافتقار إلى الأمان والعدل والمساواة، الافتقار إلى القدرة على التفكير في الغد، فما بالكم بالمستقبل!
جميع هؤلاء المهاجرين يشدّون الرحال إلى وطن جديد سيكونون فيه فقراء في الغالب، إن وصلوا بسلام، لكن سيكون لديهم القدرة على العمل والكسب بكدّ يمينهم، لا بمِنّة من الزعيم، جنرالاً كان أو شيخاً أو سيّداً، وستُتاح لهم القدرة على التفكير في الغد، والتخطيط للمستقبل، بعيداً عن أرض الخوف واليأس.