تكشف مصادر الفاتيكان لـ”أساس” أنّ الحبر الأعظم البابا فرنسيس ينوي التوسّط مع دول الخليج لحلّ الأزمة الدبلوماسية التي تعصف بينها وبين لبنان. وذلك على مشارف زيارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى البابا فرنسيس يوم الخميس في 25 تشرين الثاني الجاري.
بالطبع هناك قضايا داخلية لا يتدخّل فيها الكرسي الرسولي، لكن التدخّل الدبلوماسي لحلّ أزمة لبنان الخارجية ممكن من خلال الدعوة إلى الاحتكام للمؤسسات وإجراء الانتخابات النيابية، والأهمّ: منع تدهور الوضع أمنياً وسياسياً، الأمر الذي قد يؤدّي إلى ذهاب لبنان إلى مؤتمر تأسيسي جديد، يكون على حساب المسيحيين.
يدرك الفاتيكان عمق الوجود الروسي في سوريا وعمق الوجود الأميركي في لبنان، لذلك يطلب من واشنطن أن تولي الاهتمام الكافي للملف اللبناني
ستحضر هذه العناوين في اللقاء، استكمالاً للقمّة التي عقدها البابا فرنسيس مع الرئيس الأميركي جو بايدن، وكان لبنان حاضراً فيها. وتشير مصادر مقرّبة من دوائر عاصمة الكثلكة في العالم إلى أنّ “لبنان في غيبوبة”. ويعني هذا الكلام الكثير، لأنّ قطار التغيير انطلق عقب التفاهمات الأميركية ـ الروسية، التي انبثقت عن لقاء بايدن مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في 16 حزيران الماضي، ولبنان لم يستدرك ذلك بعد، بل يُغرق نفسه في الوقت الضائع بدلاً من الاستعداد للمرحلة المقبلة.
يدرك الفاتيكان عمق الوجود الروسي في سوريا وعمق الوجود الأميركي في لبنان، لذلك يطلب من واشنطن أن تولي الاهتمام الكافي للملف اللبناني. وسبق له أن دعا، في الصيف الماضي، البطاركة المعنيّين بالشأن اللبناني إلى عقد مؤتمر دولي من أجل لبنان لتأكيد أولويّة البلاد دوليّاً، على الرغم من صغر حجمها.
صحيح أنّ العالم مشغول بقضايا كبرى، مثل أفغانستان وإثيوبيا والحدود البيلاروسية ـ البولندية والحرب الأرمينية ـ الأذرية وبحر الصين الجنوبي وغيرها، إلا أنّ أهمية لبنان في شرق البحر المتوسط تستدعي أن تكون له الأولويّة القصوى، بسبب الاهتمام العالمي بمصادر الطاقة في هذه المنطقة، ولتداخل أدوار اللاعبين الكبار الإقليميين والدوليين فيها.
في خضمّ كلّ هذا، يعمل الإيرانيون والأميركيون على رفع سقف التفاوض، قبل اجتماع فيينا، سواء من خلال احتدام القتال في اليمن، أو تصعيد القوى العراقية المقرّبة من إيران رفضها نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في 10 تشرين الأول الماضي، أو لجهة توتّر الوضع في شرق الفرات، إثر تهديد تركيا بالقيام بعمليّة عسكرية هناك ضد “قوات سورية الديموقراطية”، ذات الانتماء الكردي. وتدلّ كلّ المؤشرات على تشابك الملفّات، بما قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى وصول قطار التغيير والتسوية إلى الداخل اللبناني.
قد يسمع ميقاتي كلّ هذه الأجواء هناك، أو جزءاً منها، لكنّه سيدرك حتماً مدى عمق العلاقة بين الفاتيكان ولبنان بمسيحيّيه ومسلميه، قبل أن يعلن القطار الدولي بدء سيره وصولاً إلى محطته اللبنانية.
ماذا قد تحمل زيارة ميقاتي؟ وتحديداً من حيث توقيتها عشيّة زحمة المفاوضات الإقليمية والدولية حول مستقبل المنطقة، ومن بينها لبنان
في تفاصيل اللقاء
صحيح أنّ ميقاتي طلب اللقاء باعتباره موعداً بروتوكوليّاً يطلبه كلّ رئيس جمهورية أو حكومة عند تولّيه سدّة المسؤولية، كما تقول مصادره. لكن لا بدّ من قراءة خلفيّات الزيارة، مع الكلام الدائم عن دبلوماسية صامتة يمارسها الفاتيكان في العمل من أجل لبنان المثقل بالأزمات بأبعادها المختلفة، الداخلية والخارجية.
فماذا قد تحمل زيارة ميقاتي؟ وتحديداً من حيث توقيتها عشيّة زحمة المفاوضات الإقليمية والدولية حول مستقبل المنطقة، ومن بينها لبنان، بدءاً من استئناف مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني في 29 تشرين الثاني الحالي، وصولاً إلى انسحاب القوات الأميركية من العراق في 31 كانون الأول المقبل؟
منذ نحو أسبوعين التقى البابا بايدن، ومن المقرّر أن يلتقي الأسبوع المقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. في اللقاء الأول طرح البابا الملفّ اللبناني، وسيطرحه في اللقاء الثاني. لا يبدو الأمر غريباً لأنّ الحبر الأعظم أنشأ خليّة خاصة لمتابعة الشؤون اللبنانية عن قرب. وفي كلّ اللقاءات التي يعقدها مع الدول المعنيّة مباشرةً بمستقبل لبنان، يستحضر البابا فرنسيس بلاد الـ10452 كلم مربّع لِما ترمز إليه بالنسبة للفاتيكان والمنطقة من حيث صيغتها وأبعادها الطائفية والثقافية “الفريدة” بين دول الجوار.
قد يسأل البعض: ماذا يستطيع أن يفعل الفاتيكان المهتمّ بلبنان وبمسيحيّيه، وهو الذي لم يستطع إنقاذ مسيحيّي العراق وسوريا؟
ميقاتي اليوم مدعوم في موقعه، أميركياً وفرنسياً. خصوصاً بعد رفض واشنطن وباريس أن يقدّم استقالته بسبب قضية وزير الإعلام جورج قرداحي. وهو يزور الفاتيكان فيما لبنان يعيش أزمة سياسية وقضائية واقتصادية.
إقرأ أيضاً: “وَعْد” ميقاتي الوزاري يصطدم بفيتو شيعيّ
وللبنان حيثيّات خاصة جدّاً، كما تقول مصادر مطّلعة على جوّ الفاتيكان. لا يعني صمته أنّه لا يعمل. ثمّة مَن يقول إنّ أكثر مَن هو معنيّ بمستقبل لبنان ومسيحيّيه هو الفاتيكان عمليّاً، لا نظريّاً. تاريخيّاً يُعدّ الفاتيكان من القريبين إلى السياسة الأميركية، حتى إنّ الرئيس بايدن الملتزم دينياً هو ثاني رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة بعد الراحل جون كينيدي. الفاتيكان كان من المباركين بل المشاركين في صوغ اتفاق الطائف، خصوصاً من خلال الجولات المكّوكية للقاصد الرسولي بابلو بوانتي، وكان من الداعين إلى الحفاظ على المناصفة والصيغة بعد خسارة المسيحيين الحرب في لبنان. وفيما المنطقة على أعتاب تغييرات جوهرية، يواكب الفاتيكان اليوم مستقبل لبنان فيها، وتحديداً ما يتعلّق بمصائره السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى مستقبل غازه الذي لم يُستخرَج بعد.