في الآتي مرافعة قانونية ودستورية، قدّمها المحامي والخبير القانوني صائب مطرجي، ردّاً على البروفسور حسان ثابت رفعت، الذي قدّم دراسة قانونية تعتبر أنّ القضاء العدلي يمكن أن يحاكم الوزراء إذا كانوا “سابقين”. والأستاذ مطرجي يفنّد في هذه الدراسة كيف أنّه لا فارق بين الوزير السابق أو الحالي، طالما أنّه يُحاكم حول اتهام يتعلّق بواجباته الوزارية خلال تولّيه منصبه الوزاري.
وتخلص دراسة مطرجي إلى أنّه “لمجلس النواب الحرية في ملاحقة رئيس الحكومة أو الوزير الحالي أو السابق عن جرائم يشتبه بإقترافها وكانت تتعلق بعمله الحكومي، وهذا الإختصاص حصري لا يشاركه به أي مرجع آخر”.
طالما أنّ مواد الدستور وقانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى قد ذكرت “رئيس الحكومة والوزراء” ولم تحدّد صفاتهم إن كانوا حاليين أو سابقين، فإنّ النصّ يطبق على إطلاقه دون تفرقة أو تجزئة
الاختصاص الشامل للمجلس الأعلى لمحاكمة رؤساء الحكومة والوزراء العاملين والسابقين:
طالعنا البروفسور حسان ثابت رفعت بدراسة قانونية حول الإختصاص القضائي للنظر بدعوى إنفجار المرفأ، وخلص فيها إلى نتيجتين وهما:
الأولى: أنّه إذا لم يتهم مجلس النواب الوزير أو رئيس الحكومة المشتبه بارتكابه جرماً يتعلق بالعمل الحكومي، فإن صلاحية الملاحقة والإتهام والحكم تعود إلى القضاء العدلي.
الثانية: أنّ إختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء يشمل فقط العاملين منهم ويخرج من إختصاصه محاكمة الوزراء السابقين.
ومع كامل تقديرنا للبروفسور رفعت ولدراسته القانونية التي تبنّى فيها قسم من رأي الفقه والإجتهاد، إلا أنّنا لا نوافقه عليها للأسباب الدستورية والقانونية والمنطقية التالية:
1- في اختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة رؤساء الحكومة والوزراء العاملين والسابقين:
– يوافقنا الرأي البروفسور رفعت بأنّ أعمال رئيس الحكومة والوزراء – الحاليين – الحكومية يعود أمر النظر بها إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في حال قيام شبهة على إرتكابهم لإهمال وظيفي أو خيانة عظمى …
– لكنّه خلص إلى أنّ “المجلس الأعلى” غير مختصّ لمحاكمة رؤساء الحكومة أو الوزراء السابقين عن أعمالهم الحكومية السابقة.
– وهو استند في رأيه إلى نصّ المادة /72/ من الدستور التي فرضت كف يد رئيس مجلس الوزراء أو الوزير عن العمل فور صدور قرار الإتهام بحقّه … والمادة /43/ من القانون 113/1990 والتي تنصّ بأنّه على المجلس الأعلى عند تجريم أحد المتهمين أن يصدر قراراً بإقالته من منصبه… ليستنتج من ذلك أن المجلس الأعلى يحاكم فقط رؤساء الحكومة والوزراء الحاليين.
– ردّنا على ذلك بالمنطق أنّه من الطبيعي أن يعاقب الرئيس أو الوزير الحالي المرتكب وفور صدور قرار باتهامه أو إدانته بكفّ يده عن العمل ثم بإقالته من منصبه وهذا من ضمن العقوبات التي ستلحق المرتكب أو المخالف. لكن هذا ليس دليلاً على أنّ اختصاص المجلس الأعلى فقط محاكمة الوزراء الحاليين، وإلا هل يعقل أن ينصّ المشترع على أنّه “في حال الرئيس أو الوزير السابق فإنّه لا تكفّ يده ولا يقال من مركزه لأنّه رئيس حكومة أو وزير سابق …”!
– ومن جهة ثانية، فإنّ المقصود من الحصانة أو الضمانة أو الحماية المعطاة لرئيس الحكومة أو الوزير أو النائب أو الموظف أو القاضي… هي حمايته من أيّة ملاحقة تعسفية قد تطاله جراء وظيفته التي يشغلها، ويجب أن تستمرّ هذه الحصانة الى ما بعد تركه مركزه الوظيفي للإستقالة أو التقاعد … وإلا في حال العكس فإنّ المشمول بالحصانة لن يكون حرّ الرأي أثناء عمله الوظيفي طالما يلاحقه شبح الملاحقات التعسفية فور تركه العمل.
– وطالما أنّ مواد الدستور وقانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى قد ذكرت “رئيس الحكومة والوزراء” ولم تحدّد صفاتهم إن كانوا حاليين أو سابقين، فإنّ النصّ يطبق على إطلاقه دون تفرقة أو تجزئة، فيشمل إختصاصه كل رئيس حكومة أو وزير حالي أو سابق مشتبه بإرتكابه إهمال وظيفي أثناء توليه العمل الحكومي.
– فالمرجع الصالح لإتهام ومحاكمة رئيس الحكومة أو الوزير عندما يكون في السلطة هو عينه المرجع الصالح لاتهامه ومحاكمته بعد خروجه من السلطة عن ما قد يكون قد ارتكبه من جرائم أثناء توليه عمله الحكومي، وذلك عملاً بأحكام المادة /72/ من الدستور والتي جاءت فيها بعض المواد التي تحدثت عن اختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والتي تنصّ على التالي: “وإذا استقال الوزير فلا تكون استقالته سبباً لعدم إقامة الدعوى عليه…”.
– وقد كرس الإجتهاد اللبناني هذه الوجهة من خلال دعاوى ملاحقة الوزراء السابقين:
جوزف الهاشم وجميل كبّي وعادل قرطاس وشاهي برصوميان وفؤاد السنيورة … حيث أكّد صراحة وضمناً على أنّ محاكمة الوزراء السابقين هي أيضاً من اختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
(هذه الاجتهادات منشورة في: “الوسيط في القانون الدستوري اللبناني”، زهير شكر، ص 950 وما يليها)
الحصانة المعطاة لرئيس الحكومة والوزراء بمحاكمتهم حصراً أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، هي حصانة دائمة عن كل أعمالهم الحكومية حتى وإن استقالوا أو خرجوا من السلطة لأي سبب آخر، وهي حصانة مشابهة لحصانة النواب والقضاة والموظفين
ويلاحظ هنا أنّ الحصانة المعطاة للوزراء ورؤساء الحكومة العاملين والسابقين ليحاكموا أمام “المجلس الأعلى” مطابقة للحصانات المعطاة للنواب والقضاة والمحامين والموظفين… والتي لا يمكن بموجبها ملاحقتهم جزائياً قبل الحصول على إذن من الإدارة المختصة… حتّى وإن كانوا قد تركوا عملهم الوظيفي طالما أنّ الأعمال المشكو منها قد حصلت أثناء توليهم لعملهم المشمول بالحماية…
– وحيث أنّ الهدف الأساسي من هذه الحصانة الإدارية المقرّرة للموظفين… عند ارتكابهم جرماً متعلقاً بالوظيفة هو إعلاء شأن الإدارة العامة وحمايتها وتمكين القائم بالوظيفة العامة إتمام المهمة الموكلة إليه بحرية تامة بعيداً عن أية ضغوط تمارس عليه وتجعله في خشية من ملاحقات تعسفية تساق ضده. وهذا الهدف لا يتحقق في حال نزع الضمانة المعطاة للشخص المعني فور تركه مهمته لبلوغه السن القانونية أو إنتهاء ولايته أو أي سبب آخر.
– وحيث أنّ العبرة تبقى لصفة الفاعل بتاريخ إرتكاب الجرم لإعطاء الوصف القانوني الصحيح للفعل المرتكب منه، وتحديد مدى ارتباطه بالوظيفة التي يشغلها، لما لهذا الأمر من أثر على تشديد العقوبة الواجب إنزالها بحقه تبعاً لصفته هذه، أو حتّى تحديد المرجع القضائي للنظر بالدعوى في بعض الأحيان كالمحكمة العسكرية ومحكمة الأحداث… والأخذ بخلاف هذه الوجهة يفضي إلى نتيجة متناقضة، إذ تتم ملاحقة الفاعل إستناداً إلى صفته بتاريخ إرتكاب الجرم، وفي الوقت ذاته إستثناء أصول معينة فرضها القانون لملاحقته بالصفة عينها.
– وحيث وإزاء ما تقدم، يكون من الواجب في كل مرّة يلاحق فيها أي من الأشخاص المذكورين عن جرم ناشئ عن المهمة القائم بها أخذ موافقة المرجع الإداري المختص بصرف النظر عن تاريح حصول هذه الملاحقة.
يراجع بهذا المعنى:
1- قرار محكمة التمييز الجزائية الغرفة السابعة رقم 67/2018 تاريخ 1/2/2018، كاساندر.
2- قرار قاضي التحقيق الأول في الجنوب برقم 211/2018 تاريخ 30/10/2018.
3- قرار محكمة إستئناف جبل لبنان الغرفة التاسعة رقم 59/2015 تاريخ 5/2/2015.
4- قرار محكمة التمييز الجزائية الغرفة الثالثة تاريخ 18/2/2009، المستشار الإلكتروني 2009.
5- قرار هيئة إتهامية تاريخ 24/4/1967، العدل 1970، ص 188.
6- مؤلف القاضي عبد الله ناصر، الدعوى العامة أمام الهيئة الإتهامية، الطبعة الأولى، 1980، ص81.
نصوص الدستور والقانون قد حددت المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء كمرجع وحيد لمحاكمة المذكورين دون أن تشترط أن يكون هؤلاء ما زالوا في السلطة
إذا وخلاصة لكل ما تقدم فإنّه من الثابت التالي:
1- أنّ نصوص الدستور والقانون قد حددت المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء كمرجع وحيد لمحاكمة المذكورين دون أن تشترط أن يكون هؤلاء ما زالوا في السلطة، فلا يمكن التمييز بين من هم في السلطة ويحاكمون أمام هذا المجلس ومن هم أصبحوا خارج السلطة فلا يحاكمون أمامه، بل يطبق النصّ على إطلاقه.
2- أنّ ما ذكره الدستور والقانون من أنّه فور إتهام رئيس الحكومة أو الوزير، أو صدور حكم إدانة ضدهما، فإنّه يقتضي في الحالة الأولى كفّ اليد عن العمل، وفي الحالة الثانية إقالتهما من مركزهما إنّما هو جزاء بديهي، إذ أنّه من غير المتصور بقائهما في مركزهما بعد صدور حكم بإدانتهما، وهذا ليس دليلاً على أنّ المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء لا يحاكم أمامه إلا من هم في السلطة، فهل يعقل أن يذكر الدستور أنّه “في حال لم يكن الوزير في السلطة، فلا تكفّ يده ولا يقال من مركزه…” !
3- أنّ الحصانة المعطاة لرئيس الحكومة والوزراء بمحاكمتهم حصراً أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، هي حصانة دائمة عن كل أعمالهم الحكومية حتى وإن استقالوا أو خرجوا من السلطة لأي سبب آخر، وهي حصانة مشابهة لحصانة النواب والقضاة والموظفين …
والتي أكد معظم الفقه والإجتهاد أنّه لا بدّ من إذن الإدارة المختصة قبل ملاحقتهم جزائياً، حتى ولو كانوا قد تقاعدوا أو استقالوا من وظيفتهم…
– مع التنويه أخيراً بأنّ الدستور الفرنسي الحالي قد نصّ في مادته /68/ بأنّ المحكمة العليا “محكمة العدل الجمهورية” هي المختصة لمداعاة الرؤساء والوزراء عن الجرائم المقترفة بمناسبة الوظيفة الحكومية أو بسببها.
– ولقد طبق الإجتهاد الفرنسي هذا النصّ على إطلاقه، أي أنّ “محكمة العدل الجمهورية” قد حاكمت رؤساء ووزراء سابقين عن أعمال حكومية اقترفوا فيها مخالفات أثناء توليهم عملهم الحكومي:
1- بتاريخ 4/3/2011 أبرأت محكمة العدل الجمهورية رئيس الوزراء السابق “إدوار بلادور” الملاحق بجريمة التواطؤ والتستر على استخدام الأموال أثناء حملته الإنتخابية… وعادت وأدانت وزير الدفاع السابق “فرانسوا ليوتار” بالتواطؤ بالقضية عينها.
2- في كانون الأول من العام 2016 أدانت “محكمة العدل الجمهورية” وزيرة الاقتصاد السابقة “كريستين لاغارد” بإساءة استخدام السلطة في التحكيم …
3-بتاريخ 3/8/2019 أدانت المحكمة المذكورة وزير العدل الفرنسي السابق “جان جاك إيرفوا” بجرم تسريب معلومات سرية … وعوقب بالحبس مع وقف التنفيذ …
(منشورة لدى الموقع الإلكتروني لـ vie publique/vie-publique.fr)
رأى البروفسور رفعت في دراسته أنّه في حال لم يلاحق رئيس الوزراء أو الوزير المشتبه بارتكابه مخالفات أو جرائم أمام المجلس الأعلى، فإنّ القضاء العدلي يعود له ملاحقته ومحاكمته
الاحتفاظ بالإختصاص القضائي:
رأى البروفسور رفعت في دراسته أنّه في حال لم يلاحق رئيس الوزراء أو الوزير المشتبه بارتكابه مخالفات أو جرائم أمام المجلس الأعلى، فإنّ القضاء العدلي يعود له ملاحقته ومحاكمته…
– هذا الرأي لا يستقيم مع المنطق والدستور والقانون إطلاقاً. فإذا افترضنا أنّ المحكمة العسكرية لم تلاحق أو تحاكم أحد العسكريين… فهل يمكن ملاحقته من قبل المحاكم العدلية العادية؟!
– إنّ المادة /70/ من الدستور قد أعطت الحرية لمجلس النواب في إتهام رئيس الحكومة والوزير المشتبه بإرتكابه جرماً… أي أنّ للمجلس سلطة تقديرية في الملاحقة أم عدمها، وبالتالي لا يعود لأي مرجع آخر في الإدعاء والمحاكمة…
– إذا افترضنا على سبيل الجدل القانوني فقط إقتناعنا بنظرية الملاحقة أمام القضاء العدلي بعد امتناع الملاحقة من قبل مجلس النواب، فما هي المهلة التي يمكن بعدها أن تلاحق المحاكم العدلية الوزير المرتكب؟
– مثلاً: إذا لم يلاحق المجلس النيابي الوزير المرتكب ومرّت على سبيل المثال سنتان… فهل من مانع دستوري أو قانوني في ملاحقته بعد هذه المهلة من قبل المجلس المذكور؟! بالطبع كلا.
– أو مثلاً: هل يقصد أن ينتظر القضاء العدلي مهلة مرور الزمن العادي على الجرم وبعدها تتحرك المحاكم العدلية؟ ولكن كيف ستلاحق جرماً سقط بمرور الزمن؟
– هذا الرأي لا يستقيم مع نصوص الدستور ولا مع قانون أصول المحاكمة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ولا على مبدأ ان يلاحق الشخص أمام مرجع قضائي واحد.
– هناك صلاحية حصرية للبرلمان في اتهام الوزراء وفي إحالتهم إلى المجلس الأعلى لمحاكمتهم غير مقيّدة بمهل محدّدة ولا تسقط بأيّ مهلة أو بانتهاء مهام الوزير… ولو أراد الدستور اللبناني أن يعطي الإختصاص للقضاء العدلي في حال امتنع مجلس النواب عن الملاحقة لكان قد أعطى هذا المجلس مهلة محددة لذلك.
– أنّ الولاية الشاملة للقضاء العدلي لا تمتد إلا إلى القضايا التي لم يضعها نصّ خاص في اختصاص محاكم خاصة أو إستثنائية.
– أنّ إتهام الوزير أو رئيس الحكومة يتطلب ثلثيّ أعضاء مجلس النواب وفقاً للدستور ولا يمكن إعطاء هذا الحقّ إلى شخص واحد (القاضي).
– في حال القضاء الإستثنائي الدستوري لا يمكن التوسّع في تفسير النصوص.
– أنّ ملاحقة الوزير بجرائم الإخلال بالواجبات المترتبة عليه يجب أن يسبقها تقدير للأعمال الحكومية التي قام بها… فإذا أعطيت صلاحية التقدير للقضاء العادي فإنّ ذلك يتعارض مع مبدأ فصل السلطات.
(“الوسيط في القانون الدستوري اللبناني”، زهير شكر، ص 971)
– أنّ عبارة “لمجلس النواب أن يتهم” الواردة في المادة /70/ من الدستور إنما تعني أنّ سلطة مجلس النواب في الإتهام هي سلطة إستنسابية يمارسها في ضوء تقديره لأعمال الوزير والظروف المحيطة بها.
– لا يمكن القول إنّ الإنسان يلاحق جزائياً عن الجرم عينه أمام مراجع عدّة ومحاكم مختلفة.
وتبعاً لكل ما تقدم، فإن لمجلس النواب الحرية في ملاحقة رئيس الحكومة أو الوزير الحالي أو السابق عن جرائم يشتبه بإقترافها وكانت تتعلق بعمله الحكومي، وهذا الإختصاص حصري لا يشاركه به أي مرجع آخر.
*مالك مكتب مطرجي للمحاماة والإستشارات القانونية