“في حال ظهرت بوادر حرب أهليّة، سنقوم بكلّ شيء لمنع مثل هذه الحرب، وإذا ترتّب عليّ شخصيّاً، أو علينا نحن الأتراك، أن نعمل شيئاً، فنحن جاهزون”.
هذا الكلام مقتبس من حوار أجرته صحيفة “السفير” مع رئيس وزراء تركيا رجب طيب إردوغان، في كانون الأول من عام 2010، على هامش زيارته للبنان.
حظيت تلك الزيارة بحفاوة رسمية وشعبية كبيرة، إذ تجمّع عدد من الشبان على طريق المطار للترحيب بالضيف التركي الكبير، برضىً ضمنيّ من حزب الله، وانتشرت في كل المناطق لائحات إعلانية بعنوان “أهلاً بالطيب”، وقالها له الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله: “الطيب إردوغان، الطيب الطيب إردوغان”، وكان مناصروه يحملون الأعلام التركية في قلب الضاحية الجنوبية.
حدثت نقطة التحوّل في العلاقات مع تركيا في آب 2013، عندما خُطِف طيّار تركي ومساعده فيما كانا في حافلة تابعة للخطوط الجوية التركية كانت في طريقها من مطار رفيق الحريري إلى أحد فنادق العاصمة
قبل “المشروع التركيّ”
كانت الاجتماعات بين الأتراك والإيرانيين والقطريين تُعقَد في دمشق للتباحث في الشأن اللبناني، برعاية بشار الأسد، ولم يكن من حديث عن مشروع تركي، أو عن تغلغل الاستخبارات التركية في المجتمعات السنّيّة.
واستمرّ شهر العسل التركي مع حزب الله، غداة الانقلاب الناعم، الذي قام به الحزب عام 2011 بإسقاطه حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى، إثر استقالة الثلث المعطِّل الذي ناله في اتفاق الدوحة، عقب انقلابه الأول في 7 أيار 2008. وكان وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو وسيطاً مقبولاً من الحزب، إلى جانب نظيره القطري حمد بن جاسم آل ثاني، لحلّ الأزمة السياسية التي نشأت إثر ذلك الانقلاب. وحينها وصل الموفدان التركي والقطري وعرضا لائحة رفضها الحزب.
حينذاك لم يرفع الأمين العام للحزب لواء “السيادة الوطنية”، ولم يعتبر أنّ تركيا تحاول التدخّل في الشؤون اللبنانية، حتى إنّه استقبل أوغلو مع بن جاسم في الضاحية في لقاء استمرّ لساعات. وللمفارقة كان نصر الله قد اتّهم في خطاب متلفز، قبل ذلك اللقاء بأيام فقط، أميركا وإسرائيل بإفشال المسعى العربي الذي كانت تقوده السعودية لحلّ الأزمة اللبنانية، فسبحان مغيّر الأحوال.
أضف إلى ذلك أنّ الرئيس الإيراني وقتذاك محمود أحمدي نجاد اتصل برئيس الوزراء رجب طيب إردوغان للتباحث في الأزمة اللبنانية.
وما هي إلا أيام حتى ابتدع الحزب خلطة سياسية هجينة، باكورة ثمارها كانت حكومة القمصان السود، التي تعدّ أولى حكومات الحزب إيّاه، لتكرّ السبحة بعد ذلك.
بيد أنّ الحزب انقلب على تركيا، كما هي عادته، وقطع شهر العسل معها من جانب واحد، بُعَيد انطلاق الثورة في سوريا في آذار من عام 2011، وقطع أنقرة علاقاتها مع دمشق، انسجاماً مع مواقف الدول العربية، والجامعة العربية، وعدد كبير من الدول الغربية، لتنضمّ إلى لائحة المتآمرين على محور الممانعة، حسب تصنيف الحزب، لكن بشكل متدرّج.
رسائل الخطف
حدثت نقطة التحوّل في العلاقات مع تركيا في آب 2013، عندما خُطِف طيّار تركي ومساعده فيما كانا في حافلة تابعة للخطوط الجوية التركية كانت في طريقها من مطار رفيق الحريري إلى أحد فنادق العاصمة.
وتبنّت الخطف مجموعة تُطلق على نفسها “زوّار الإمام الرضا”، في مشهديّة تعيدنا بالذاكرة مباشرة إلى جماعة “التكفير والهجرة”، التي أعلنت تبنّيها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري على لسان أحمد أبو عدس، ولكل عدوّ مفترض “أبو عدس” خاصّ به. وكانت المجموعة اختطفت قبل عام سائق شاحنة تركيّاً، تولّى الجيش اللبناني تحريره فيما بعد.
لم تكن الرسالة عصيّة على الفهم، فالحزب يقول للأتراك لا مكان لكم في لبنان. فهمت أنقرة الرسالة، وعمدت إلى التخفيف من نشاطاتها والفعّاليات التي كانت تنظّمها إلى الحدود الدنيا، مكتفية بمساعدات عبر بعض المنظمات الحكومية بين الحين والآخر.
ومذ ذاك، لا ينفكّ حزب الله والمتحدّثون باسمه يصنع الحملات الإعلامية الواحدة تلو الأخرى، تارةً للحديث عن مخطّطات تركيّة للعبث بأمن لبنان، وإقامة إمارة في الشمال، وطوراً للحديث عن تحويل ولاء السُنّة من السعودية إلى تركيا.
اتّكأت تلك الحملات على الخلاف السياسي بين أنقرة وبعض العواصم العربية، وجاءت محاولات الاصطياد في الماء العكر بناءً على تعاون ومشاركة من الإعلام المسيحي العوني، الذي سال فيه حبر كثير للحديث عن المخطّطات التركيّة في لبنان، وتسرّب إلى الإعلام المسيحي غير العوني، وما كان من حزب الله إلا أن اختبأ خلف حليفه المسيحي ميشال عون، الذي تبرّع على جري عادته أن يكون رأس حربة الحزب في حملاته، فصال وجال في التاريخ كي يتحدّث عن “الاضطهاد العثماني”.
لذلك وجدت تلك الحملات مقبوليّة، ولا سيّما مع التقارير الأمنيّة الكثيفة عن نشاط جماعات تركيا في لبنان، وخاصة الشمال، التي تمّ تضخيمها كثيراً.
في الآونة الأخيرة، وقبل أن تحطّ طائرة وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو في مطار رفيق الحريري، كان حزب الله يطلق حملة إعلامية منظّمة للإضاءة على ما يسمّى “الدور التركي” في لبنان، واستمرّت الحملة بعد مغادرة الضيف التركي ولمّا تنتهِ
حزب الله عارياً
في الآونة الأخيرة، وقبل أن تحطّ طائرة وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو في مطار رفيق الحريري، كان حزب الله يطلق حملة إعلامية منظّمة للإضاءة على ما يسمّى “الدور التركي” في لبنان، واستمرّت الحملة بعد مغادرة الضيف التركي ولمّا تنتهِ.
حَفَلت الحملة بمقالات شملت كلّ الجرائد والمواقع التابعة أو القريبة من حزب الله، تحت عناوين مختلفة، وإطلالات لخبراء في الشأن التركي على الشاشات، تصبّ جميعها في خانة واحدة: صناعة الوهم.
لم يملّ الحزب تكرار هذه المعزوفة الممتلئة بالمواويل والموشّحات النشاز منذ عام 2013، لكنّ ما يشدّ الانتباه في هذه الحملة أنّ الحزب قام بها وحده، فلم يشارك فيها الإعلام العوني مثلما جرت العادة، سواء عبر الشاشات أو المقالات. حتى إنّ جريدة الجمهورية نشرت مقالاً بقلم وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو، في مؤشّر بالغ الدلالة على الانعطافة الإعلامية.
إلى ذلك، لم يتحرّك الأرمن، وربّما للمرّة الأولى، للاعتراض على أيّ زائر تركي، سياسي أو غير سياسي، على الرغم من الذاكرة التاريخية الأرمنية المثقلة بالدماء، الأمر الذي يؤكّد أنّ الخصام المستجدّ والنفور بين الحزب وبين الوجدان المسيحي (عوني وغير عوني) واقع لا يمكن دحضه، وإن لم يصل بعد إلى مرحلة الطلاق البائن.
إقرأ أيضاً: بالوقائع والأسماء: هكذا تحضّر تركيا لـ”احتلال” طرابلس
ظهر الحزب في حملته وهو يغرِّد وحيداً، ويعزف لحناً نشازاً لم يُطْرَب له أحد، لا في لبنان ولا في جزيرة العرب. وعند استعراض المقالات، التي تحدّثت عن الدور التركي، نجد أنّها حملت عناوين برّاقة لمحتوى فارغ.
يتحدّث أحدهم عن أنّ الأمن القومي التركي يبدأ من المياه اللبنانية، ويتحدّث آخر عن الفراغ الولائي على الساحة السنّيّة، وما إلى ذلك. ما كانت هذه المقالات سوى رسائل ابتزاز بائسة ويائسة من الحزب إلى دول الخليج، للإيحاء بوجود مشروع تركي لملء الفراغ الذي خلّفه غيابها عن الساحة اللبنانية، وخاصة السنّيّة، في تكرار لمعزوفة مملّة وسمجة.