يغرق لبنان في “التفاهة” السياسية، بدل أن نعلن انتسابنا إلى محور الدول الوطنية في المنطقة. ومن أوضح الدلالات على انعدام الوزن والرؤية، أن يخرج وزير متسبّب بأزمة دبلوماسية مع دول الخليج، ومن شأنها المسّ باللبنانيين مباشرة، ليطالب بضمانات مقابل تقديم استقالته من الحكومة.
لا يتوانى الوزير عن تكرار استعداده لتقديم استقالته إذا كانت تحقّق مصلحة لبنان ويمكن من خلالها إعادة العلاقات مع دول الخليج إلى سابق عهدها. هذه الحالة، على تفاهتها، تعتبر مؤشّراً خطراً جداً إلى ما وصلت إليه المقاربات السياسية في لبنان. إذ يتحوّل شخص صاحب منصب حديث ومغمور إلى مادة للمقايضة بين مغادرته منصبه وبين الحصول على مقابل من دول أخرى.
يخطئ أركان المحور الداعم للوزير في التقدير حين يظنّون أنّ ثمة إمكانية للدخول في مفاوضات على رأس وزير أو مسؤول بين جهة حزبية ودولة تمتلك كلّ مقوّمات ومرتكزات الدولة الوطنية
وأسباب “التفاهة” كثيرة، أبرزها:
أوّلاً: من يشيع مثل هذه الأفكار ويتبنّاها، لا يعلم أبداً ماهيّة الدولة وعملها الذي يتجلّى في حماية مصالح المواطنين في الداخل والخارج. لذلك أيُّ سياسة تنتهجها الدول لا بدّ لها أن تكون مرتبطة بتلبية مصالح الناس.
ثانياً: يتعامى هؤلاء عن أنّ المشاكل الدبلوماسية والسياسية بين الدول قد تصل إلى حدود متقدّمة جدّاً من الصراع على المصالح ومن استخدام آليّات الضغط. ولنا في الأمس القريب مثال المشكلة السياسية والدبلوماسية بين تركيا وروسيا التي وقعت إثر إسقاط الأتراك للطائرة الحربية الروسية في شمال سوريا. فحينئذٍ لم تترك موسكو إجراءً ضاغطاً لم تتّخذه، وصولاً إلى حدّ وقف استيراد الموادّ الغذائية والحمضيّات والفاكهة من تركيا.
ثالثاً: تكمن المشكلة في اعتبار الفريق الداعم لهذا الوزير أنّ كلّ ما يتوافر بين يديه قابل للمقايضة: رأس الوزير، أو ثوابت الدولة، أو حتّى مصالح اللبنانيين. هذا الفريق المنتمي إلى محور معروف التوجّه والعنوان، يرى الناس والأوطان بيادق في مشروع استراتيجي، والجميع يتحوّل بالنسبة إليه إلى ورقة قابلة للاستخدام عندما تحين اللحظة.
رابعاً: يظنّ المحور الداعم للوزير أنّه يخوض إحدى معاركه من أجل أسر الخصوم، لكنّه يأسر مواطنيه في الداخل وفي الخارج معاً بناءً على المعادلة التي يطرحها، فيصبح اللبنانيون المقيمون والمغتربون مهدّدين، وبذلك ينتقل إلى لعبته المفضّلة، وهي الابتزاز الدائم، فيبتزّ اللبنانيّين داخليّاً بأمنهم وأمانهم، ويبتزّ المغتربين بأمنهم الاجتماعي ومستقبلهم، ويطرح أوراق الابتزاز التي يمتلكها في مجابهة الدول الأخرى.
خامساً: يخطئ أركان المحور الداعم للوزير في التقدير حين يظنّون أنّ ثمة إمكانية للدخول في مفاوضات على رأس وزير أو مسؤول بين جهة حزبية ودولة تمتلك كلّ مقوّمات ومرتكزات الدولة الوطنية. وهذه نقطة أساسية وجوهرية أُبلِغ بها حزب الله سابقاً، إذ لا يمكن للسعودية أن توافق على الدخول في مفاوضات مع طرف أو حزب، لأنّها تنسج علاقاتها من دولة إلى دولة. وفي هذا الإطار، لا بدّ من الفصل بين أيّ مسار يتعلّق بالمفاوضات الإيرانية السعودية المتوقّفة، وبين توهّم البعض أنّه يمكن الذهاب إلى تفاوض ومقايضة بين السعودية وحزب الله أو أيّ تنظيم آخر.
يغرق لبنان في “التفاهة” السياسية، بدل أن نعلن انتسابنا إلى محور الدول الوطنية في المنطقة
سادساً: تغيب عن بال هؤلاء متابعة سياق التطوّرات الإقليمية والدولية، والاتجاه إلى نظام عالمي جديد يقوم على عنصر الاستثمارات المشتركة الطويلة الأمد. ولنا في لبنان مثال على 22 اتفاقية استثمارية وتعاونية مع السعودية تمّ تعطيلها في الداخل بسبب الحسابات السياسية. ولو نجح لبنان في توقيعها لساهمت في الحدّ من الانهيار، وفي السعي للارتقاء إلى مصافّ الدول المتقدّمة، ولساهمت هذه الاتفاقيّات في بناء منظومة اقتصادية وماليّة متماسكة قادرة على النهوض بالبلد.
سابعاً والأهمّ: هذه المشكلة على تفصيليّتها، أو صغر حجمها، تفصل بين منطق الدولة ومنطق اللادولة، وتعكس الفرق بين مَن يريد أن ينتهج سلوك الدول في بناء علاقات قائمة على المؤسسات، ومَن يريد انتهاج سلوك العصابات أو المافيات في استخدام أيّ ملفّ ورقة تفاوض أو مقايضة لتحقيق حسابات ومصالح سياسية. هذه الصورة التنميطية التي يتمّ تقديمها، ترتبط بالصراع القائم بين مبدأ الحفاظ على الدولة الوطنية بمؤسّساتها ومرتكزاتها، وبين محاولة ضربها وهدمها من قبل مجموعات تسعى إلى تصغير الكيانات وتشتيت البنية المركزية للدولة الوطنية، لأنّ مرتكزاتها السياسية تقوم على مبدأ الابتزاز والمقايضة في أيّ ملفّ من الملفّات. فإمّا الحرب والتهديد في حال الإعتراض، وإمّا الاستقرار ثمناً للسكوت والرضوخ، وإمّا داعش أو بشّار الأسد، وإمّا فأنت مستسلم أو عميل. وتستمرّ المقايضة، فيصبح القضاء مقابل الحكومة، وتطويع المؤسسات العسكرية والأمنيّة مقابل الحرب.
بمعنى أوضح، هذا الصراع، مع كونه تفصيلاً صغيراً في الأزمة الأكبر، يمثّل مؤشّراً واضحاً إلى سياق المعركة المفتوحة والدائرة في المنطقة بين طرف يدعم مجموعات متناقضة لها مشاريع متعدّدة الحسابات، وبين طرف آخر يدعم دوماً منطق الدولة الوطنية. وللسعودية مواقف واضحة في لبنان منذ سنوات، فهي لم تحِد عن دعم الشرعية أبداً. إذ لم يحدث أن دعمت السعودية جماعات خارجة على الدولة هدفها تدمير بناها الوطنية.
إقرأ أيضاً: أعمدة ميقاتي الثمانية: أين السقف؟
لكل ما سبق يتوضّح أكثر وأكثر أنّ أعمدة الميقاتي الاصلاحية الاقتصادية الثمانية هي بلا سقف، وأنّ استقالته حين يواجه وسيواجه من قوى التعطيل أصبحت أكثر إلحاحاً.