إن لم تكن الدولة التركية شقيقة لفلسطين، فهي الأقرب إلى ذلك. وهذه الحقيقة لها جذور عميقة في التاريخ، وعمق عاطفي وثقافي وديني. ومع أنّ تركيا “أتاتورك” كانت الدولة الإسلامية الأولى التي اعترفت بإسرائيل وأقامت علاقات كاملة معها، إلا أنّ تركيا “السلطان عبد الحميد” قاومت ضغوطاً ذات تأثير مصيريّ كي لا تقدّم فلسطين للحركة الصهيونية لتقيم عليها دولة إسرائيل.
في السياسة، فإنّ حقائق الحاضر وما تُنتج من مصالح هي التي تصنع القرارات والاتّجاهات، أمّا وقائع الماضي فليس لها من مكان سوى الذاكرة.
في الوقت الراهن لم تعد تركيا عثمانية تماماً، ولا علمانية تماماً، ولا أطلسية كلّيّاً، بل إنّ الصفة الأكثر واقعيّة لها هي “الإردوغانيّة”.
كان ممكناً لتركيا الإردوغانيّة أن تختار طريقاً آخر في التعامل مع مصر، تحتفظ فيه برجاء الإخوان منها ولا تخسر علاقاتها مع الدولة الإقليمية الكبرى، وهو دور الوساطة
وإذا ما تفحّصنا فصول العلاقة مع المحيط العربي في عهدها، فإنّنا نجدها الأكثر تخبّطاً واضطراباً، فيما لو نظرنا للأمور بالجملة أو حتى بالتفاصيل.
في زمن الربيع العربي توغّلت الدولة التركية في متاهات ساحاته وحروبه، ومن دون إيراد الأمثلة على ذلك لأنّها بيّنة تماماً، وكان منطلق هذا التوغّل تهوّراً مبالغاً في التعاطي مع هذا الربيع، بدافع رهانات يتبيّن الآن بوضوح كبير كم كانت فاشلة وعكسيّة النتائج، وكم أدّت إلى خسارات فادحة لعلاقات ولاقتصاد دولة تنافس على مكانة مميّزة في الإقليم والعالم. ولنأخذ مثالاً يصلح مقياساً، وهو العلاقة مع مصر.
استثمرت تركيا في “ربيع مصر”، فوضعت كلّ رصيدها لمصلحة الإخوان المسلمين، وحوّلت نفسها إلى قاعدة خلفيّة يتجمّعون فيها تحت فرضية الانقضاض على الحكم هناك، وإعادة العجلة إلى الوراء بإعادة الرئيس المخلوع محمد مرسي إلى القصر الجمهوري. وقد انطوى هذا الرهان على استثمار الجزء على حساب الكلّ، حيث الجزء هو الإخوان الذين تمّت تصفية نفوذهم في زمن قياسي، والكلّ هي الدولة المصرية الأكثر عمقاً ورسوخاً في الشرق الأوسط.
تضييع دور الوساطة
كان ممكناً لتركيا الإردوغانيّة أن تختار طريقاً آخر في التعامل مع مصر، تحتفظ فيه برجاء الإخوان منها ولا تخسر علاقاتها مع الدولة الإقليمية الكبرى، وهو دور الوساطة. فإن لم تنجح في مساعدة الإخوان على تحسين وضعهم في ظلّ الحكم الجديد في مصر، فهي ستنجح حتماً في الاحتفاظ بالعلاقة المهمّة مع الدولة المصرية. وما حدث مع مصر، وإن اختلفت الأمور في العديد من الجوانب والخلفيّات، حدث مع باقي الدول العربية، وذلك حين اختارت تركيا الإردوغانيّة رهاناً خطراً فيه تجاوزٌ للمسموح به في استخدام الإسلام السياسي، وخصوصاً الأجنحة الإرهابية منه. ولو أنّها درست جيّداً هذا الرهان وفق ميزان موضوعي يشير إلى الربح والخسارة لَما ذهبت بعيداً فيه، إذ ظهر أنّها دفعت ثمن الذهاب والإياب من دون فائدة تُذكر سوى الخسارة.
الآن… ونظراً إلى فداحة الأثمان، التي ترتّبت على الخلل العميق الذي اعترى العلاقة التركية مع الدول العربية، تقع تحت بؤرة الضوء الساطع الزيارة التي سيقوم بها الشيخ محمد بن زايد إلى تركيا، وقد لفت نظر المهتمّين المستوى المرتفع للحماسة التركية لهذه الزيارة، الأمر الذي يؤكّد الرهانات الكبيرة عليها بصفتها اختراقاً ذا شأن، ولأنّها ذات مفاعيل مستقبلية تعيد العلاقات التركية مع الجوار والمحيط العربي إلى وضع أفضل. وغنيٌّ عن التذكير بأنّ دولة الإمارات لا تعمل وحدها في السياسات الرئيسية.
لقد أثّرت تطوّرات داخلية وخارجية على نحو مباشر في التوجّهات التركية الجديدة نحو دول الجوار والمحيط. يتّصل الداخليّ منها بالانتخابات الحاسمة القادمة، مع تقدير متنامٍ أنّ “الإردوغانيّة” ليست في أفضل حالاتها، وتمرّ بأزمات داخلية من كلّ نوع على صعيد الاقتصاد وعلاقات القوى السياسية والجروح البليغة التي أصابت الديموقراطية التركية وصورتها أمام شعبها والعالم.
أمّا التطوّرات الخارجية فتتجسّد في التبدّلات التي طرأت على رؤية تركيا الإردوغانية لمدى فاعليّة وجدوى الرهان على الإسلام السياسي الذي يمثّله الإخوان وفق الطبعة المصرية، وتمثّله النهضة وفق الطبعة التونسية، إضافة إلى الطبعة المغربية، ولا سيّما أنّه الآن في حالة انحسار في كلّ الساحات الرئيسية التي راهنت الإردوغانية على نفوذ متفوّق لها فيها، ومن بينها المتاهة الليبية.
إنّ الاستيقاظ التركي على استثمار جديد ومختلف مع الجوار والمحيط العربي ينطوي على وعد ببداية مرحلة جديدة في العلاقات الإيجابية والشديدة النفع لكلا الجانبين. غير أنّ ما يستحقّ تمثُّله وجعله درساً، أنّه لو جرى تدقيق تركي إردوغاني في حساب الرهانات الداخلية والخارجية لكانت الخسائر أقلّ.
إقرأ أيضاً: قرن اللعنة على العرب
ملاحظة أخيرة: في إحدى خطب الجمعة وجّه خطيب في غزّة، وكان مسؤولاً سياسياً، تحيّةً لدولة الخلافة، وسقطت عمداً كلمة الأطلسيّة. كان ذلك في زمن أوشك فيه إردوغان أن يُنادى به خليفة.