يوم الإثنين 15 تشرين الثاني الجاري، تناولت وسائل الإعلام خبر استقبال رئيس الجمهورية ميشال عون سفيريْ لبنان لدى السعودية والبحرين، والقائم بالأعمال في سفارة لبنان في الكويت، لبحث “التطوّرات المتّصلة بالعلاقات اللبنانية مع الدول الثلاث”.
قرأت الخبر على هاتفي المحمول في خضمّ عجقة العمل نهاراً. وللحظة، عَلِق في ذهني أنّ الرئيس اجتمع بسفراء الدول الثلاث لبحث سبل تطوير العلاقات. عند المساء عدت الى الخبر، فأيقنت حقيقته المُرّة! رئيس الجمهورية اجتمع بالدبلوماسيّين اللبنانيين “المطرودين” من الدول الخليجية الثلاث، أو “الأشخاص غير المرغوب بهم” في تلك الدول، بحسب التعبير الدبلوماسي.
غالبيّة اللبنانيين يريدون عودة العلاقات الدبلوماسية مع دول الخليج، لأنّهم يعون عمق العلاقات التاريخية والجغرافية والحضارية والثقافية والدينية والاقتصادية والتجارية والسياحية بين لبنان ودول الخليج
تساءلت: “لماذا فهمت الخبر “بالمقلوب” للحظة؟! هل هو نقص في متابعتي لتطوّر الأحداث؟ طبعاً لا. أنا، كما العديد من اللبنانيين، مدمن على قراءة الصحف صباحاً مع فنجان القهوة. هذا الإدمان هو ما دفع بي إلى التخصّص في علم الجيوسياسة وإلى الكتابة الصحافية. بدأ مع الصحيفة الورقية، وتحوّل (كما يتحوّل فيروس كورونا اليوم) إلى الصحيفة الرقمية على الكمبيوتر، ثمّ على الـIPAD. واليوم مع خدمة الخبر السريع، أصبح إدماناً على قراءة الخبر في لحظة حدوثه عبر الهاتف الذكي.
إذاً، ما علق في ذهني خطأٌ وليس نقصاً في المعلومات. الأرجح أنّه يعود إلى رغبتي في أن يكون الخبر الحقيقي هو اجتماع رئيس الجمهورية مع سفراء السعودية والكويت والبحرين. وهذا له تفسيره في علم البسيكولوجيا. إذ أحياناً كثيرة ما لا يسمع الإنسان الخبر كما أُذيع إنّما كما يرغب في أن يسمعه، وهو ما يُعرَف بـ”التفكير الرغبوي”.
لست الوحيد الذي لديه هذه الرغبة. غالبيّة اللبنانيين يريدون عودة العلاقات الدبلوماسية مع دول الخليج، لأنّهم يعون عمق العلاقات التاريخية والجغرافية والحضارية والثقافية والدينية والاقتصادية والتجارية والسياحية بين لبنان ودول الخليج، ويشعرون بعلاقات صداقة مع هذه البلدان التي لم تكن يوماً إلا إلى جانب لبنان. فهي وقفت إلى جانبه خلال الحرب لتخفّف عنه مآسيها وويلاتها. فلم تؤسّس لها ميليشيا لبسط نفوذ. وساعدت هذه الدول، وبخاصة المملكة العربية السعودية، لبنانَ على إنهاء الحرب من خلال اتفاق الطائف. لم تستثنِ ميليشيا من قرار حلّ الميليشيات لتحفظ مصالحها في المنطقة. وحرصت على المساهمة في إعادة بناء لبنان بعد الحرب على الرغم من الوصاية السورية التي فرضتها السياسة الأميركية في المنطقة بعد الحرب الباردة. ولم تستعمله منصّة لشنّ الحروب وخوض المعارك ضدّ دول المنطقة والعالم. وكانت تدعم مطالباته باستعادة سيادته واستقلاله برفع تلك الوصاية. ولم تتحالف مع نظام دمشق على حساب لبنان والدولة اللبنانية. وساهمت بسخاء في كلّ المؤتمرات الدولية التي عُقِدت من أجل دعم لبنان، وسخّرت علاقاتها الإقليمية والدولية لحشد الدعم من أجل لبنان، وذلك على عكس إيران وسياساتها العدوانية ضدّ دول المنطقة والعالم التي تحول اليوم دون مساعدة لبنان. وبعد انسحاب الجيش السوري استمرّت دول الخليج العربي، وفي مقدّمها السعودية، في الوقوف إلى جانب لبنان ليستعيد عافيته السياسية والاقتصادية بعد فترة الوصاية. فهي لم تنقضّ عليه لتسيطر على قراره بواسطة جماعة مسلّحة. ولم تعطّل الحياة السياسية كما فعل حزب الله الذي انقضّ على الأكثرية النيابية وعطّلها، ثمّ عطّل الاستحقاقات الدستورية ليفرض وزراء ورؤساء حكومات ورئيس جمهورية.
“الإنسان يحصد ما يزرع”. وأنتَ يا جنرال حصدت في عهدك ما زرعته منذ عودتك إلى لبنان بخياراتك السياسية المدمِّرة للدولة ومؤسّساتها، وربّما للكيان!
الخليج الودود
تدرك غالبيّة اللبنانيين جيّداً أنّ صداقة دول الخليج هي مع لبنان، كلّ لبنان، ومع اللبنانيين، كلّ اللبنانيين. لذلك كانت مساعداتها ودعمها للدولة اللبنانية عبر مؤسّساتها الشرعية. وفي استقبالها لليد العاملة اللبنانية لم تميّز بين لبناني وآخر، لا على أساس الدين، ولا على أساس الطائفة أو المذهب. ويدرك اللبنانيون أنّ بعض اللبنانيين هم مَن أساؤوا إلى تلك العلاقات التي راحت تتدهور شيئاً فشيئاً إلى أن انفجرت اليوم، وأنّ هذا البعض هم حزب الله وحلفاؤه، وفي مقدّمهم الرئيس ميشال عون الذي يشهد تاريخه منذ عودته إلى لبنان كيف ساهمت خياراته السياسية في تدهور علاقات لبنان بدول الخليج.
وهذه ثلاث محطّات أساسيّة في تلك الخيارات:
1- منذ عودته إلى لبنان، وبدل اقتناص فرصة الدعم الإقليمي والدولي لسيادة لبنان المرتكز على القرار الأممي 1559، تحالف ميشال عون مع حزب الله. مذّاك تموضع الجنرال سياسيّاً في المحور السوري – الإيراني، ووضع نفسه في مواجهة الدول العربية، وفي مقدّمها دول الخليج التي تخوض صراعاً شرساً ضدّ إيران وضدّ نفوذها المتمدّد في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق (حديثاً في تلك الفترة)، وفيما بعد في اليمن. عندما التقيته في العام 2008 في الرابية، وناقشته في تحالفه مع حزب الله، أنا الذي كنت قد كتبت في العام 2004 أطروحة عن العلاقات الشيعية – المارونية في لبنان في “المعهد الفرنسي للجيوسياسة”، لم أجد لدى الجنرال مفاهيم جيوسياسية واضحة لهذا التحالف. أمّا خيار تحالف الأقلّيّات، فهو يدرك أنّ أسلافه من الزعماء الموارنة تراجعوا عنه منذ بداية الحرب لأنّهم وجدوا فيه خطراً وجوديّاً على المسيحيين في هذا الشرق العربي ذات الغالبيّة المسلمة. فكيف إذا كان تحالفاً مدعوماً من قوّة إقليمية إسلامية مذهبيّة وغير عربية، لا بل معادية للدول العربية، وتحديداً دول الخليج العربي؟!
2- لم يكتفِ الجنرال بتغطية سلاح حزب الله في الداخل، وهو السلاح الذي أصبح موجّهاً إلى اللبنانيين منذ أيار 2008، إنّما راح يغطّي تدخّله في الحرب السورية لدعم نظام بشار الأسد. لم يتسلّح بقرار النأي بالنفس وفق إعلان بعبدا، الذي صدر في العام 2013 لتحييد لبنان عن الصراع السوري المعقّد، فوضع نفسه أكثر فأكثر في المحور الإيراني – السوري، وعمّق المواجهة مع دول الخليج.
3- لم يلعب ميشال عون الرئيس أيّ دور لثني حزب الله عن تدخّلاته العسكرية إلى ما بعد الجغرافيا السورية، وبخاصة في اليمن حيث حرب الحوثيّين المدعومين والمدرّبين والمسلّحين والمموّلين من إيران وحزب الله تشكّل تهديداً مباشراً للأمن القومي السعودي، وتهديداً مباشراً للملاحة في مضيق باب المندب الذي يصل بحر العرب بالبحر الأحمر. لا بل استمرّ في الدفاع عن سلاح حزب الله على أساس أنّه “مكمّل لعمل الجيش ولا يتعارض معه”، كما صرّح لشبكة CBC المصرية عشيّة زيارته مصر في شباط 2017. لم يدرك أنّ تلك الحروب، التي يخوضها الحزب، ستكون لها تداعيات كارثية على كلّ لبنان وعلى علاقاته مع كلّ دول الخليج. وها قد وصلنا إليها اليوم.
إقرأ أيضاً: عون ورياض سلامة: نرحل معاً أو نبقى معاً؟!
“الإنسان يحصد ما يزرع”. وأنتَ يا جنرال حصدت في عهدك ما زرعته منذ عودتك إلى لبنان بخياراتك السياسية المدمِّرة للدولة ومؤسّساتها، وربّما للكيان!
لكن، للأسف، لبنان واللبنانيين يدفعون الثمن. إذا كنت اليوم بصدد البحث عن سبيل لإعادة العلاقات بين لبنان ودول الخليج إلى طبيعتها، فاعلم أنّ الخطوة الأولى هي رحيلك. لذلك نقول لك: إرحل، ولو بقيت ساعة من عهدك، حفاظاً على لبنان ورأفةً بمَن بقي من اللبنانيّين فيه، وبأولئك العاملين في دول الخليج.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة