منذ أن سقط جدار برلين (بين شطريْ العاصمة الألمانيّة الشرقيّ والغربيّ) في عام 1989، أقامت دول الاتحاد الأوروبي سلسلة من الجدران المرتفعة والأسلاك الشائكة حول حدودها يبلغ طولها ألف كيلومتر. وتقول إحصاءات الاتحاد الأوروبي إنّ أكثر من نصف الدول الأعضاء في الاتحاد أقامت جدراناً حول حدودها بمساعدة وبتمويل من موازنة الاتحاد. واليوم تطالب ليتوانيا بمساعدة اتحادية تبلغ 176 مليون دولار لإقامة جدار شائك بارتفاع ثلاثة أمتار على طول حدودها مع بيلاروسيا، على أن تسدّد بقيّة التكاليف من ضريبة جديدة تفرضها على مواطنيها. ويُفترَض أن يتمّ إنجاز بناء هذا الجدار في شهر أيلول 2022. وعلى قاعدة الموافقة على تمويل هذا المشروع، تقدّمت دول أوروبية أخرى، هي هنغاريا ولاتفيا والنمسا واليونان وبولندة، بطلب مساعدات مماثلة لإقامة جدران عازلة على طول حدودها. فاليونان وحدها تطالب بمبلغ 60 مليون يورو لتكملة بناء الجدار الفاصل مع تركيا على طول حدودها الشمالية والشرقية.
تعلّمت أوروبا من درس الانفتاح على الهجرة (2015-2016) أنّ لاستيعاب المهاجرين ثمناً سياسيّاً، وأنجيلا ميركل نموذج
يواجه الاتحاد الأوروبي هذه المطالب من زاويتين:
زاوية ماليّة تمويليّة، وهي الزاوية الأقلّ حدّة، وزاوية أخلاقية سياسية هي الأشدّ حدّة. إذ ما معنى الاحتفال بسقوط جدار برلين وتمويل جدران حول كلّ دولة أوروبية؟
إنّ أشدّ ما يُقلق الاتحاد الأوروبي الآن هو الهجرة الأفغانية في ضوء تداعيات الانسحاب الفوضوي الأميركي من أفغانستان، وفي ضوء الواقع الإنساني الخطير الذي تواجهه أفغانستان بعد الانسحاب. لكنّ أوروبا تشعر في الوقت ذاته أنّها ليست بريئة من الكارثة الأفغانية، ولذلك لا تستطيع أخلاقياً أن تدير ظهرها لنتائج تلك الكارثة. إلا أنّ المجتمعات الأوروبية ليست مجتمعات خيرية، وهي في معظمها ليست مجتمعات منفتحة على الآخر. صحيح أنّها تعاني من تزايد عدد الوفيات على عدد المواليد، ولديها نقص حادّ ومتواصل في عدد السكان (ألمانيا وإيطاليا مثلاً)، غير أنّها في الوقت عينه تخشى على النسيج الاجتماعي الذي يحفظ سلامتها وأمنها الداخليّيْن. وهذا ما يفسّر إلقاء الأضواء الساطعة على أيّ عمل جرميّ أو إجراميّ يرتكبه مهاجر، لأيّ سبب كان، وهو ما ينعكس سلباً على الموقف العامّ من موضوع الهجرة في الأساس.
موجات اللاجئين
في عاميْ 2015 و2016، شهدت أوروبا الموجة الكبرى من اللاجئين الذين هرعوا إليها من دول الشرق الأوسط ( سوريا خصوصاً)، ومن شرق آسيا (أفغانستان خاصةً). في ذلك الوقت بلغ عدد المهاجرين حوالي 1.4 مليون شخص. استوعبت ألمانيا، بقرار إنساني جريء من المستشارة أنجيلا ميركل، عدداً كبيراً منهم. ودفعت ميركل ثمن ذلك سياسيّاً في الانتخابات العامّة. وتمرّدت هنغاريا على منظومة القيم التي دخلت عضويّة الاتحاد على أساسها، حتى وصل بها الأمر أن هدّدت بالانسحاب من الاتحاد بسبب إصرارها على رفض قبول اللاجئين، وحتى عدم السماح لهم بالمرور عبر أراضيها.
وفيما تستعدّ أنجيلا ميركل للانسحاب من الحياة العامّة، يسارع رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان إلى تبوُّؤ قيادة قوى اليمين المتطرّف في أوروبا، بعدما كاد تطرّفه أن يتسبّب بطرده من الاتحاد.
تضامن وباء كوفيد 19 (كورونا) مع رئيس الوزراء الهنغاري وأمثاله من معارضي الهجرة والساعين إلى بناء الجدران ورفع الأسلاك الشائكة. فقد جمّد الوباء إلى حدٍّ بعيد حركة انتقال المهاجرين طوال عام 2020. ولكن مع تراجع الوباء وتقدُّم المعاناة في العديد من الدول، انطلقت أفواج المهاجرين من جديد، وانطلقت معها الدعوات إلى رفع الأسوار الشائكة وبناء الجدران الفاصلة، حتى لتبدو أوروبا وكأنّها على صورة ومثال برلين الشرقية والغربية.
تعلّمت أوروبا أيضاً من درس الانغلاق على الهجرة أنّ لرفع الحواجز في وجه المهاجرين مكافأة سياسية. ورئيس الوزراء الهنغاري أوربان نموذج
كانت تركيا بوّابة الهجرة من الشرق الأوسط وشرق آسيا إلى أوروبا عبر اليونان، برّاً وبحراً. وكانت ليبيا بوّابة الهجرة من العمق الإفريقي إلى أوروبا عبر إيطاليا بحراً. الآن أصبحت الهجرة عبر بيلاروسيا من العراق وسورية وأفغانستان جوّاً. وبين بيلاروسيا (حليفة روسيا – بوتين) والدول الأوروبية ما صنع الحدّاد. فالعلاقات بينهما بالغة السوء تحت شعار عدم احترام حقوق الإنسان البيلاروسي، فإذا بالتهمة ترتدّ إلى بولندة وامتداداً إلى أوروبا بأنّها هي التي لا تحترم حقّ الإنسان، وتترك المهاجرين يموتون برداً أمام حدودها المغلقة.
تساند روسيا (الرئيس فلاديمير بوتين) بيلاروسيا. ويساند حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بولندة. وهكذا يتحوّل موضوع المهاجرين (من شمال العراق بصورة خاصة) إلى قنبلة موقوتة بين المعسكرين المستنفرين منذ انفجار أزمة أوكرانيا. وتأتي مناورات حلف شمال الأطلسي في البحر الأسود لتزيد الوضع تعقيداً وخطورة.
في ضوء هذه التطوّرات المتداخلة والمتشابكة، طلبت 12 دولة من دول الاتحاد الأوروبي إعادة نظر الاتحاد في قضية المهاجرين، ليس من باب احترام حقوق الإنسان، إنّما من باب السلامة الأوروبية المشتركة.
لقد تعلّمت أوروبا من درس الانفتاح على الهجرة (2015-2016) أنّ لاستيعاب المهاجرين ثمناً سياسيّاً، وأنجيلا ميركل نموذج. وتعلّمت أوروبا أيضاً من درس الانغلاق على الهجرة أنّ لرفع الحواجز في وجه المهاجرين مكافأة سياسية. ورئيس الوزراء الهنغاري أوربان نموذج.
ودراسة الجغرافيا السياسية للدول الأوروبيّة تبيّن أنّ أكثر من نصف الدول الأعضاء في الاتحاد أقام حتى الآن حواجز على طول حدوده، وأنّ إقامة الحواجز ورفع الجدران أصبح أمراً واقعاً وشائعاً ومفروغاً منه. ولذلك لم يعد بإمكان الاتحاد الأوروبي رفض التمويل الكلّيّ أو الجزئي لمشاريع الجدران العازلة.
وهكذا بعد سقوط جدار برلين ترتفع الجدران البرلينيّة في طول أوروبا وعرضها. وحيث لا يمكن بناء الجدران (بين فرنسا وبريطانيا مثلاً) تتولّى السفن العسكرية المهمّة في بحر المانش.
تعاني دول الاتحاد الأوروبي من مشكلتين كبيرتين:
1- تناقص عدد المواليد بالنسبة إلى عدد الوفيات. ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا تعاني بصورة خاصة من تراجع حادّ في عدد السكان.
إقرأ أيضاً: سوريون ولبنانيون يموتون برداً وجوعاً في أوروبا
2- تزايد عدد المهاجرين: والمهاجرون ليسوا يداً عاملة فحسب، بل إنّهم ذوو ثقافة وإيمان دينيّ يختلفان ويتباينان عن ثقافة وعن دين أهل البلاد. من هنا، إقفال الأبواب في وجه الهجرة هو رفض ليد عاملة مطلوبة، وإبعاد لثقافات وعقائد غير مرغوب فيها، وحتى الآن اختارت أوروبا الجدران المرتفعة.