دفعت الإدارة الأميركية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، قبل أيّام قليلة، في اتجاه وضع ثلاثة قياديّين حوثيّين على لائحة العقوبات التي تضمّنها قرار سابق للمجلس في حقّ شخصيات يمنيّة. كان قرار مجلس الأمن، في الأصل، ظالماً إلى حدّ بعيد، خصوصاً أنّه ركّز على الرئيس الراحل علي عبدالله صالح ونجله أحمد الذي كان هناك إصرار لدى بعض الجهات الإقليمية والدوليّة على تهميشه.
جرى تهميش أحمد علي عبدالله صالح، علماً أنّه كان في الإمكان الاستفادة منه، في مرحلة معيّنة، في مجال تكوين “شرعيّة” يمنيّة قادرة بالفعل على مواجهة الحوثيين بدل ترك الأمر للرئيس المؤقّت عبد ربّه منصور هادي ولشركائه المضاربين من الإخوان المسلمين الذين لديهم حسابات خاصّة بهم.
لا يمكن أن تؤدّي السياسة الأميركيّة المتّبعة اتّجاه اليمن إلا إلى اعتماد صيغة جديدة في هذا البلد تكرّس تأسيس دولة تدور في الفلك الإيراني
تلتقي مثل هذه الحسابات، الموجودة لدى الإخوان، في أماكن عدّة مع حسابات الحوثيين. يؤكّد ذلك الجمود على جبهات تعز منذ سنوات عدّة. تحوّلت تعز ذات الماضي العريق بأهلها المسالمين إلى ضحيّة لهذا التفاهم القائم من تحت الطاولة بين الإخوان والحوثيّين.
لن تقدّم معاقبة ثلاثة قياديّين حوثيين ولن تؤخّر… وذلك لسبب في غاية البساطة. يعود السبب إلى أنّ السؤال المطروح حالياً لا يتعلّق بفرض عقوبات دوليّة، لا معنى لها، على هذا القيادي الحوثي أو ذاك. السؤال يتعلّق بالأبعاد التي ستترتّب على احتمال سيطرة الحوثيّين (جماعة أنصار الله) على مدينة مأرب مع ما يعنيه ذلك من اكتمال مقوّمات الدولة التي أقامتها إيران في الشمال اليمني. عاصمة هذه الدولة صنعاء. وضع الحوثيون يدهم عليها وظلموا أهلها، وحوّلوها من مدينة تتّسع لكلّ اليمنيّين من كلّ المناطق إلى مدينة بائسة لا مستقبل لها ولأبنائها.
لا تزال مأرب تقاوم، بفضل قبائل المنطقة خصوصاً، والجهود التي يبذلها التحالف العربي من الجوّ. لكنّ هناك إشارات إلى أنّها يمكن أن تسقط قريباً في غياب ضغط أميركي حقيقي يصبّ في الحؤول دون ذلك في غياب إدارة أميركية تعي تماماً ما على المحكّ في اليمن. أكثر من ذلك، هناك إدارة لا تعرف تماماً مَن هم الحوثيّون ومدى سيطرة إيران عليهم.
إذا أخذنا في الاعتبار مدى الجهل الأميركي باليمن لا يعود هناك مجال لاستغراب التفاؤل، لدى بعضهم في واشنطن، بإمكان التوصّل إلى صفقة مع الحوثيين، صفقة تؤدّي إلى وقف القتال الدائر في محيط مدينة مأرب وتأتي بالحوثيين إلى طاولة المفاوضات. مثل هذه الصفقة غير واردة في ظلّ موازين القوى القائمة حالياً. لو كان لدى الحوثيين اهتمام حقيقي بالتفاوض قبل الاستيلاء على مدينة مأرب، لَما كانوا نفّذوا الأمر الذي أصدره السفير الإيراني في صنعاء حسن إيرلو، والقاضي برفض مبادرة السلام السعودية في آذار الماضي. كانت تغريدة من إيرلو، وهو ضابط في “الحرس الثوري”، عن أنّ المشروع السعودي “مشروع حرب”، كافية لقطع الطريق على أيّ تقدّم من أيّ نوع بعد الإعلان عن مبادرة السلام السعوديّة.
يُفترض في الإدارة الأميركية الاقتناع بأن لا وجود لأجنحة حوثية، بعضها تحت السيطرة الكاملة لإيران وبعضها الآخر لديه تحفّظات عن الدور الإيراني
لا يمكن أن تؤدّي السياسة الأميركيّة المتّبعة اتّجاه اليمن إلا إلى اعتماد صيغة جديدة في هذا البلد تكرّس تأسيس دولة تدور في الفلك الإيراني. مثل هذه الدولة، التي تعني قبل كلّ شيء نشر الجهل والتخلّف في قسم من شمال اليمن، لا تستطيع أن تلعب دوراً يساعد على نشر الاستقرار في شبه الجزيرة العربيّة. الأخطر من ذلك كلّه أنّ مثل هذه الدولة لن تساعد في أيّ شكل في تأمين سلامة الملاحة في البحر الأحمر خلافاً لِما يعتقده الأميركيون وآخرون حالوا في الماضي دون استعادة قوات يمنيّة بقيادة طارق محمّد عبدالله صالح ميناء الحديدة.
على العكس من ذلك، لعب البريطاني مارتن غريفيث، المبعوث السابق للأمين العامّ للأمم المتحدة، دوراً في التوصّل إلى اتفاق ستوكهولم في نهاية العام 2018، وتكريس الاعتراف الدولي بالحوثيين. كانت تلك المرّة الثانية التي يستفيد الحوثيون من ممارسات لمبعوث الأمين العامّ للأمم المتحدة إلى اليمن. كانت المرّة الأولى مباشرة بعد وضع الحوثيين يدهم على صنعاء في 21 أيلول 2014. وقتذاك، جرى توقيع “اتفاق السلم والشراكة” بين الحوثيين و”الشرعيّة اليمنيّة”، بحضور جمال بنعمر ممثّل الأمين العامّ للمنظمة الدوليّة في اليمن. لم يحترم الحوثيون الاتفاق ساعة واحدة. سارعوا إلى وضع عبد ربه منصور، الذي حاول ممارسة لعبة التذاكي، في الإقامة الجبريّة، وأجبروه على الاستقالة.
يُفترض في الإدارة الأميركية الاقتناع بأن لا وجود لأجنحة حوثية، بعضها تحت السيطرة الكاملة لإيران وبعضها الآخر لديه تحفّظات عن الدور الإيراني. ليس الحوثيون سوى أداة إيرانيّة وُلِدت من استثمار يزيد عمره على ربع قرن. صحيح أنّ علي عبدالله صالح ارتكب خطأ جسيماً، دفع ثمنه من حياته، برِهانه على الحوثيين بعد حرب صيف 1994، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ إيران عرفت منذ البداية كيف تستثمر في هذا المشروع ذي الطابع المذهبي.
مفهوم أن تكون هناك إدارة أميركيّة متردّدة وفي حال ضياع، خصوصاً في ضوء الانسحاب العسكري الكارثي من أفغانستان. ما ليس مفهوماً تفادي وضع الحدث اليمني في إطار إقليمي أوسع. يشمل هذا الإطار أمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي والسيطرة على مضيق باب المندب الذي يمكن استخدامه في إغلاق قناة السويس. ويشمل أيضاً هذا الاطار أمن دول شبه الجزيرة العربيّة كلّها. ليس كافياً التوصّل إلى تفاهم سعوديّ – عُمانيّ في شأن مستقبل محافظة المهرة التي على الحدود اليمنيّة – العُمانية، كي يتوقّف الحديث عن الخطر الإيراني انطلاقاً من اليمن.
إقرأ أيضاً: أخطاء يمنيّة قاتلة… واستثناء اسمه العطّاس
في النهاية، هل لدى إدارة جو بايدن ما يكفي من المعرفة بما هو على المحكّ في اليمن كي تُقدِم على خطوة تساعد في استيعاب الخطر الإيراني الذي مصدره هذا البلد؟ الأهمّ من ذلك كلّه وجود قناعة في واشنطن بأنّ اليمن مقبل على تطوّرات كبيرة وخطيرة ذات انعكاسات على المنطقة كلّها في الوقت ذاته في غياب مَن يكسر معادلة توازن القوى القائمة حالياً…