الأسبوع الماضي اصطحبت الصغير “مالك” صباحاً لقضاء يوم عطلة عند خالته العائدة من رحلة إلى إحدى الدول الأوروبية. دعتني إلى ارتشاف فنجان قهوة. سألتها: “كيف كانت الرحلة؟”، فتنهّدت عميقاً وقالت بحسرة: “العالم وين ونحنا وين؟!”.
كلمات أربع تختصر واقعنا الأليم.
صحيح أنّ اللبنانيين عاشوا مع باقي شعوب العالم مآسي جائحة كورونا. لكنّ الويلات التي بدأت تنهال عليهم سبقت الجائحة، ثمّ تفاقمت خلالها، وها هي تستمرّ وتنذر بالأخطر على مشارف انحسارها.
ستبقى بيروت غارقة في سُباتها الحزين، أشبه بمدينة أشباح، شوارعها موحشة، مخيفة ليلاً، وشبه مقفرة نهاراً
في بداية الحجر الصحي العام 2020، لم يعِ اللبنانيون حجم الانهيار الذي ينتظرهم. تأجّلت مواجهتهم له أشهراً علموا خلالها أنّ حكومات كثيرة خصّصت مليارات الدولارات لدعم مواطنيها ومؤسّساتهم، بعدما توقّفوا عن العمل لتخطّي المرحلة التي كانت كارثية على اقتصادات مختلف دول العالم. لم ينتظروا خطوة مماثلة من حكومتهم. فهم لم يعتادوا حكومات تساعد المواطن، بل حكومات ترهقه، وسياسيّين يسرقون حتى المساعدات التي تأتيه من الخارج، وموظّفين يفرضون الرشى… إلى أن أتت لحظة الحقيقة!
انتهت فترة الحجر واتُّخذ قرار بإعادة فتح البلاد بالتزامن مع قرارات مشابها في دول أوروبية وأميركية وآسيوية. وكانت المفاجأة. إذ بدأ اللبنانيون يسألون: “العالم وين ونحنا وين؟!”.
في مختلف دول العالم انشغلت الحكومات والبرلمانات في سنّ قوانين لإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية بعد فترة التوقّف القسريّ. ورصدت مئات مليارات الدولارات لإقراض الناس لمساعدتهم في إعادة إطلاق مؤسّساتهم ومحترفاتهم وزراعاتهم.
المستشفيات، التي أرهقتها الجائحة، راحت تستعدّ لموجات جديدة من الفيروس. زادت أطقمها الطبيّة، وجهّزت غرفاً جديدة للعناية الفائقة. المدارس والجامعات بدأت تدرس الطريقة الأنسب لتعليم التلاميذ والطلّاب للعام الدراسي 2021-2022.
أمّا في لبنان فقد كان الوضع مختلفاً تماماً. الانهيار كبير. والسياسيون يُكملون صراعاتهم المعتادة. الحكومة انشغلت بقمع المواطنين المطالبين بأموالهم المحجوزة في المصارف وباستعادة الأموال المنهوبة وبالإصلاحات… المجلس النيابي لم يقرّ قانون “الكابيتال كونترول”. وبدل أن تقرّ الدولة خطّة للنهوض الاقتصادي، اختلفت مؤسّساتها على أرقام الخسائر. فتوقّفت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. واستمرّ الدعم الكارثي الذي أقرّته الحكومة السابقة. فتبخّرت، خلال سنتين، حوالي 15 مليار دولار، آخر احتياط باقٍ في المصرف المركزي (غير الاحتياط الإلزامي). وعندما ذهب المواطن إلى المصرف لاستعمال “قرشه الأبيض” في “يومه الأسود”، وجده محجوزاً، وقد سُرِق حوالي 85% من قيمته بفعل أسعار صرف الدولار المختلفة.
المستشفيات، التي خاضت “المعركة” ضدّ فيروس كورونا، تحوّلت أزمتها من أزمة إمكانات وقدرات استيعابية إلى أزمة وجوديّة. أموالها محجوزة. العديد من طواقمها الطبية هاجر. لبنان الذي كان “مستشفى الشرق” يكاد يتحوّل إلى “مقبرة” لأبنائه.
“تصارع” المدارس والجامعات من أجل البقاء. أموالها محجوزة في المصارف وطلّابها عاجزون عن دفع الأقساط. الدعم الخارجي لبعضها غير كافٍ. لذلك رسالتها مهدّدة، تلك الرسالة التي بدأتها منذ القرن الثامن عشر، والتي بفضلها ذاع صيت لبنان “مدرسة الشرق” و”جامعة الشرق”.
صحيح أنّ اللبنانيين عاشوا مع باقي شعوب العالم مآسي جائحة كورونا. لكنّ الويلات التي بدأت تنهال عليهم سبقت الجائحة، ثمّ تفاقمت خلالها، وها هي تستمرّ وتنذر بالأخطر على مشارف انحسارها
في السياحة: “العالم وين ونحنا وين؟!”
في صيف 2021، وبسبب التقدّم في حملة التلقيح، استعاد القطاع السياحي بعضاً من نشاطه في العديد من دول العالم. بحسب منظمة السياحة العالمية، بلغ عدد السيّاح 54 مليوناً. رقم مشجّع على الرغم من أنّه أقلّ بكثير من رقم الـ 167 مليوناً الذي عرفه صيف 2019. الفنادق والمطاعم والمنتجعات والأسواق التجارية كانت جاهزة لاستقبال السيّاح بعد طول غياب.
أمّا في لبنان فالقطاع، الذي بدأ يشهد تراجعاً منذ العام 2013 بسبب حروب حزب الله في الإقليم وحملاته السياسية والإعلامية ضدّ دول الخليج، توقّف تقريباً في صيف 2021. حتى المغتربون اللبنانيون ألغى العديد منهم رحلاته إلى لبنان الصيف الماضي. فلا كهرباء للمكيّفات ولا مازوت للمولّد ولا مياه للاستحمام ولا بنزين للتنقّل ولا اطمئنان إلى تناول الوجبات في المطاعم. بنتيجة هذا الواقع، وإضافة الى تداعيات انفجار مرفأ بيروت الذي دمّر حوالي 1800 مطعم… أغلق حوالي 2000 مطعم. وأغلقت 25% من الغرف في فنادق العاصمة.
الشهر الفائت شهد العالم العربي حدثين كبيرين:
1- الأول افتتاح “إكسبو دبي 2020” العالمي. افتتاح اندهشت له العيون. وخفقت له القلوب. فرِح اللبنانيون لدبي ولدولة الإمارات العربية. ولكنّهم بكوا بيروت ولبنان.
2- والثاني: رفع الستارة عن “مهرجان الجونة السينمائي 2021”. استمتع اللبنانيون برُقيّه الفنّيّ. وبكوا مهرجانات كازينو لبنان وبعلبك والأرز.
وفي البيئة أيضاً: “العالم وين ونحنا وين؟!”
منذ أيام عُقِدت “قمّة غلاسكو للمناخ”. ناقش الرؤساء والوزراء الخطوات التي قامت بها حكوماتهم للتخفيف من انبعاثات الغازات الدفيئة بهدف الحدّ من ارتفاع حرارة الأرض. وتناقش الخبراء والناشطون البيئيون في كيفيّة تطوير استغلال الطاقة البديلة (الشمسيّة والهوائيّة وحرارة جوف الأرض…) بهدف الحفاظ على البيئة وتفادي ارتفاع حرارة الأرض. رئيس الحكومة اللبناني قال في كلمته: “استجاب لبنان للنداء العالمي، وهو يؤمن بمكافحة الأزمة المناخية من خلال مسار يقوده إلى تحقيق التنمية المستدامة”، في حين أنّ المولّدات الخاصّة لإنتاج الكهرباء البديلة اجتاحت بيروت والمناطق. أصواتها تلوّث السمع. ودخّانها يضاعف انبعاثات الغازات السامّة (الأرقام غير متوافرة حتى الساعة). ولبنان يشهد مجزرة بيئية غير مسبوقة، إذ بدأ سكّان الأرياف بقطع الأشجار لتدفئة أطفالهم وشيوخهم في فصل الشتاء القارس بدل الكهرباء المقطوعة والمازوت الذي لا قدرة لهم على شرائه. في المقابل بحث العالم في “قمّة غلاسكو” في كيفيّة توسيع المساحات الخضراء. وكان وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد أطلق مبادرة لزراعة 50 مليار شجرة في الشرق الأوسط خلال العقود المقبلة، 10 مليارات منها في المملكة السعودية وحدها.
في الأعياد المقبلة: “العالم وين ونحنا وين؟!”
مع اقتراب الأعياد سيصبح السؤال أكثر مأساويّة. يستعدّ العالم للأعياد. في نهاية هذا الشهر سترتدي باريس حلّة العيد. سوف يشعشع شارع الشانزيليزيه بأنواره التقليدية التي لا تفقد سحرها. وستُقام فيه أسواق الميلاد. وفي لندن ستُضاء ساحة البيكاديللي، وأوكسفورد ستريت، ومحلّات هارولدز الفخمة. وفي نيويورك ستزيد أضواء الميلاد من حيويّة المدينة. وفي دبي ستتلألأ أشجار الميلاد في المجمّعات التجارية بالزينة والأضواء الملوّنة. في حين ستبقى بيروت غارقة في سُباتها الحزين، أشبه بمدينة أشباح، شوارعها موحشة، مخيفة ليلاً، وشبه مقفرة نهاراً.
في دول العالم بدأ الأولاد يكتبون رسائلهم إلى “بابا نويل”. لا يخشى الأهل ما يطلب أولادهم من هدايا. في الولايات المتحدة الأميركية بلغ تضخّم الأسعار 5.4% في شهر أيلول الفائت. وهذا تضخّم “إيجابي” لأنّه ناتج عن زيادة في الاستهلاك من قبل الأميركيين. أمّا في لبنان فالتضخّم ناتج عن تدهور قيمة العملة الوطنية. بحسب إدارة الإحصاء المركزي، بلغت نسبة التضخّم في شهر آب 137.75% مقارنة مع شهر آب 2020. لذلك أصبح أكثر من 80% من اللبنانيين فقراء، و40% منهم يعيشون في حالة من الفقر المدقع (بحسب أرقام الأمم المتحدة). أمام هذا الواقع، بالكاد يتمكّن اللبنانيون من إطعام أطفالهم. هؤلاء سيستيقظون صباح العيد، ولن يلبسوا ثياب العيد، ولن يجدوا هديّة تحت الشجرة. سيكتشفون أنّ “بابا نويل” لم يزُرهم.
في نهاية العام 2021 سيكرّر أطفال لبنان الصرخة التي أطلقتها ريما بندلي منذ أربعين عاماً: “ليش ما في عنا لا أعياد ولا زينة…”، وسيُعلون الصوت: “أعطونا الطفولة، أعطونا السلام”. ولا مَن يسمع.
إقرأ أيضاً: “إكسبو 2020” يكشف كم صار لبنان من الماضي
ضاعت طفولتهم بسبب سوء إدارة طبقة حاكمة. شبابهم سرقته طبقة سياسية فاسدة. ومستقبلهم خُطِف من قبل مجموعة مسلّحة ربطت مصير لبنان بمصير إيران وما يُسمّى “محور الممانعة”، المحور الذي يمنع عنهم عيش حياة طبيعية.
عند مغيب الشمس ذهبت لأعيد مالك إلى المنزل. كانت خالته لا تزال شاردة تفكّر: “العالم وين ونحنا وين؟!”.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية