الأردن دائماً في قلب الحدث الإقليميّ

مدة القراءة 6 د

تذكيرٌ لِمَن نسي فقط. المملكة الأردنية في مساحتها وعدد سكّانها وقوّتها الاقتصادية قد تكون متوسّطة الأرقام بالمقارنة مع دول أخرى في المنطقة، لكنّها كانت دوماً دولة محورية في صناعة المشهد الإقليمي ورسم معالمه والتأثير في مساره. اقترب منها أكثر من حدث سياسي إيجابي أو سلبي بطابع داخلي وخارجي، منذ أواخر الأربعينيّات حتى اليوم، واستطاعت أن تجيِّر كلّ ذلك إلى فرص سياسية واستراتيجية تعزّز الموقع والدور والمكانة. أصدقاء الأردن كثرٌ، لكنّ المنزعجين من موقعه ودوره في المنطقة نتيجة لعبة التوازنات، التي نجح في بنائها، فتحوّل مع الوقت إلى رمز مشهود له في صناعة الدبلوماسية الناعمة، عددهم ليس بقليل. عمّان كانت عرضة لمحاولات استهداف وخطط تآمر، وأحياناً كانت ساحة أطماع لبعض دول الجوار، القريب منها والبعيد، وكانت تخرج كلّ مرّة معافاة، وتزداد قوّة وصلابة. ما الذي يعنيه أن يستضيف الأردن ملايين اللاجئين من دول الجوار العربي، الذين دفعهم الكيان الإسرائيلي مرّة، ومشاكل أنظمتهم والاقتتال الداخلي مرّة أخرى، فيتجاوز عدد الوافدين عدد الأردنيين أنفسهم على الرغم من القدرات المحدودة؟ هناك حالة من التقاء المصالح الإقليمية وتقاطع الطرق لا يمكن لها إلا أن تمرّ عبر عمّان في الملفّ الفلسطيني وما تبقّى من الصراع العربي الإسرائيلي، وحتماً في صناعة السياسات العربية والتفاعل مع الأزمات التي بدأت تخرج إلى العلن في شرق المتوسط، والملفّ الإيراني وتغيّرات العلاقات الخليجية وتكتّل “الشام الجديدة”، ومسار الأمور مع تركيا وإيران، خصوصاً بعد وصول إدارة بايدن إلى السلطة في أميركا.

مشكلة المنطقة اليوم لم تعُد مع خطط الربيع الموعود أو حجم الشرق الأوسط الجديد أو المواجهات الأميركية الروسية أو دخول اللاعب الصيني على الخطّ، بل في أنّ العديد من ركّاب السيارة الواحدة قد غادروها

كلّ ذلك كان بين الأسباب الكافية والمقنعة لننتقل إلى العاصمة الأردنية على الرغم من أجواء كورونا، وعلى الرغم من قرار عدم مغادرة تركيا حتى تراجع الوباء. الدعوة من مركز القدس للدراسات السياسية كانت مغرية، إذ وعدنا الصديق عريب الرنتاوي بلقاء نخبة من الخبراء والأكاديميين والسياسيين حول طاولة تجمع العربي والتركي والإيراني والكردي والغربي (الأميركي والروسي والألماني) لمناقشة ملفّات إقليمية ساخنة تتفاعل في الأعوام الأخيرة، ولا بدّ من “تشريحها” وتحليلها والخروج بتوصيات حولها قد تخدم صنّاع القرار في أكثر من دائرة عربية وإسلامية وإقليمية. اللافت كان وجود المراقبين الصيني والأميركي الجنوبي والإفريقي، فهم أيضاً يريدون أن يتابعوا ويرصدوا ما يجري ليحموا حصّتهم ومصالحهم.

العنوان المرفوع هو: “الأردن في بيئة إقليمية ودولية متغيّرة: حدود الفرص وكيفيّة استثمارها”. لكنّ ما نوقش في 6 جلسات على مدى يومين كاملين كان البيئة الإقليمية ككلّ وحدود فرصنا وسبل استثمارها لإقناع المتحاورين بعضهم بعضاً بضرورة بناء مشهد جديد يجنّب المنطقة المزيد من الأزمات والمشاكل ويسمح باستغلال الفرص المتوافرة أو البحث عن فرص مشتركة نحو بناء تكتّل إقليمي مغاير.

المهمة كانت صعبة على الجميع ولم يكن هناك إجماع كالعادة، لكنّنا تعلّمنا الكثير، بالنسبة إليّ على الأقلّ:

القضية الفلسطينية في أصعب مراحلها، ولا ثقة بإسرائيل التي لن تقدّم شيئاً لا في مشروع الدولتين ولا حتى الكيانين في دولة واحدة. “خطأ بن غوريون أنّه لم يحسم المسألة وقتها”، كما نقل أحد وجوه الداخل الفلسطيني. وهذه اللغة هي لغة اليمين المتشدّد اليوم، لكنّ البعض ما زال متمسّكاً باعتماد “سياسة واقعيّة” في الحوار مع تل أبيب، فعن أيّ تسوية وحلّ نتحدّث؟

التحالفات والتكتّلات العربية الجديدة أمام امتحان حقيقيّ يتعلّق بأهدافها وتطلّعاتها. هل هي من أجل دعم ميثاق جامعة الدول العربية أم الابتعاد عنه بعد مرور 75 عاماً على ولادته؟ هل تضيق مساحات المناورة العربية الإقليميّة مع هذه التكتّلات أم تتّسع؟

“الشام الجديدة” ما زال في “الشرنقة”، لكنّ “الشاميّ” بين الأردن ومصر والعراق هو الأوّل، فلماذا هذه التسمية؟ وهل التوجّه هو مصالح اقتصادية وإنمائية وخطط ربط وتواصل في مجالات الطاقة والأسواق، أم مشروع تطلقه هذه الدول الثلاث المؤسِّسة لتلتحق به بقيّة الدوائر حسب التقاء المصالح والأهداف؟

بالنسبة إلى تركيا، كما أوضحت بدوري، لا مشكلة لها في تحرّك من هذا النوع، خصوصاً أنّها بدأت تحسّن علاقاتها مع القاهرة وبغداد، وإذا ما كان الطابع التجاري الاقتصادي الإنمائي هو المطلوب من التحرّك فستكون منافع تركيا كثيرة. الدول الثلاث عليها مواجهة المواقف الخليجية والعربية الأخرى وإسرائيل، وربّما اللاعب الأميركي، وهي في الطريق إلى تأطير الخطوة قبل الحديث عن أيّة عرقلة تركيّة. إيران شأن آخر، خصوصاً بسبب تزايد نفوذها في العراق، الذي قد لا يلتقي مع تقارب وتنسيق مصري أردني على هذا النحو.

التأزّم القائم في العلاقات العربية التركية والعربية الإيرانية يراوح مكانه. الشكّ والقلق موجودان مع بعض التفاوت في الإيجابيّات لمصلحة اللاعب التركي الذي بدأ يراجع علاقاته بالعديد من العواصم العربية. الحوار الإيراني السعودي مهمّ، لكنّه ما زال في بدايته، وهو سيسير حتماً تحت تأثير التوازنات الإقليمية والدولية والعلاقات مع طهران.

الإدارة الأميركية الجديدة لم تقدّم أيّ شيء يطمئن مَن راهن عليها، وهم عددهم قليل. لا وضوح في السياسة الأميركية الجديدة حيال دفع الملفّ الفلسطيني نحو الحلحلة أو إلزام تل أبيب بقبول ما لا يعجبها. روسيا وتركيا وإيران ليسوا ببعيدين عن الكثير من الأزمات التي يعاني منها العديد من الدول العربية. لكنّ المهمّ يبقى فرص وقدرات الدائرة العربية على التحرّك الموحّد لحماية المصالح ومَن سيقود؟

مشكلة المنطقة اليوم لم تعُد مع خطط الربيع الموعود أو حجم الشرق الأوسط الجديد أو المواجهات الأميركية الروسية أو دخول اللاعب الصيني على الخطّ، بل في أنّ العديد من ركّاب السيارة الواحدة قد غادروها. هم استقلّوا سيارات مختلفة تسير في أكثر من اتجاه، وهو ما يعقّد الأمور في صناعة المشهد الإقليمي ولعبة التوازنات المرتقبة.

في الحديث عن ضرورة الصبر والتحمّل والمقاومة حتى النهاية، تحضرني حكاية سقوط فأرتين في وعاء الحليب. استسلمت الأولى على الفور ولاقت حتفها، فيما قاومت الثانية بيديها ورجليها فحصلت على طبقة من الزبدة استطاعت الوقوف فوقها والقفز إلى خارج الوعاء.

إقرأ أيضاً: المؤسّسات والاستقرار السياسيّ

سخونة الأجواء ما زالت قائمة، والسيناريوهات كثيرة ومتعدّدة، وصندوق المفاجآت والفرجة ما زال يحمل الكثير. غادرنا طاولة الاجتماع إلى طاولة العشاء حيث تقاسمنا أرغفة الخبز وصحون الطعام وتبادلنا الأحاديث الجانبية بحماسة وحرارة، وربّما هنا قد تكون خصوصيّات الرسائل التي وجّهها المؤتمر إلى القيادات والأنظمة. انظروا إلى الصورة التذكارية للمشاركين.

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…