الكاظمي والخطأ الاستراتيجي

مدة القراءة 6 د

إنّ الاستراتيجية المتدرّجة، التي اعتمدها رئيس الوزراء العراقي “المنتهية ولايته” في التعامل مع بعض القوى والأحزاب السياسية التي تمثّل الفصائل العسكرية الموالية لإيران في الحياة السياسية العراقية، يمكن القول إنّها كانت سيفاً ذا حدّين، فهي من جهة سمحت للكاظمي بتطبيق تكتيك أو مناورة الضرب والتراجع ثمّ الحوار، ومن ناحية ثانية لم تسمح له باعتماد تكتيك يمكّنه من الحفاظ على ما حقّقه من إنجاز في المناورات التي كان يقوم بها، وهو ما أجبره أو كان يجبره بعد كلّ خطوة على تقديم تنازلات كانت جوهريّة في الكثير من الأحيان وتقضم من هيبة الدولة ومؤسّساتها العسكرية والسياسية لمصلحة هذه الفصائل التي وجدت في ما يحدث فرصة لممارسة المزيد من الضغط والابتزاز وتحقيق النقاط، مستغلّةً ما أشاعته من ارتفاع منسوب مخاوفها من المشروع الذي يحمله الكاظمي وفريقه والجهات الدولية والإقليمية الداعمة له، خاصة بعد كلّ ضربة كانت تنزل بها من الكاظمي، وارتفعت جراءتها على التطاول على هيبة الدولة ورموزها، ولا سيّما على الكاظمي بما يمثّله على رأس السلطة التنفيذية من مظهر لسيادة الدولة ومؤسّساتها السياسية والعسكرية، وبصفته رئيساً للوزراء وقائداً عامّاً للقوّات المسلّحة.

العودة إلى أطروحة “الحكومة التوافقيّة” تعني بالدرجة الأولى إخراج الكاظمي من كونه منافساً حقيقيّاً على منصب رئيس الوزراء المقبل

ولم تكن مشاركة الكاظمي في الاجتماع الذي عُقِد في منزل رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، بحضور الرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والقضائية) من أصل الأربع الدستورية، إلى جانب قيادات الإطار التنسيقي، ومن بينهم قيادات الفصائل المتصارعة مع القائد العامّ للقوات المسلّحة، الخطوة التراجعيّة الأولى للكاظمي في إطار الاستراتيجية التي سار عليها في بناء موقفه وأسس تعامله مع هذه الفصائل وما تمثّله من قوّة موازية لمؤسسة الدولة العسكرية التي يقودها، بل جاءت تتمّة لخطوات بدأت من اللحظة التي قَبِل فيها الاتصال والطلب من قائد قوة القدس في حرس الثورة الإيرانية الجنرال إسماعيل قاآني القدوم إلى بغداد، لإحراجه ووضعه أمام حقيقة ما قامت به جماعات من هذه الفصائل من عمل إرهابي استهدف أبرز معالم هيبة وسيادة الدولة العراقية، منزل رئيس الحكومة.

كان من المفترض أن يُترجَم التصعيد غير المسبوق في مسار المواجهة التراكمي بين الكاظمي والفصائل المسلّحة الموالية لإيران، والذي تُوِّج بحادث الاعتداء، والتأييد الدولي المقرون بإدانات واسعة لهذا العمل الإرهابي، بخطوة حاسمة باتجاه محاصرة هذه الفصائل وتحميلها نتائج هذا العمل وتداعياته، إلا أنّ البيان الذي صدر عن اجتماع الرئاسات الثلاث والإطار التنسيقي أبطل مفعول وفعّاليّة موجة التأييد العالمية وإمكانية بلورتها خطوات عمليّة تسمح للكاظمي بالضرب بيد حاسمة تعيد إنتاج الشارع الداخلي الشعبي، وتنقله إلى ضفّة الداعم لمشروع الدولة على حساب القوى والأحزاب والفصائل المتّهمة بتدميرها وتفتيتها واستهداف هيبتها وسيادتها بالاعتداء على القائد العامّ لقواتها المسلّحة، وذلك لأنّ هذا البيان نال موافقة، أو على الأقلّ عدم اعتراض الكاظمي، على الشكل الذي خرج به، إذ وضع البيانُ الاعتداءَ على منزله في المستوى الثاني بعد اتّهامه بالوقوف وراء قرار إطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين المعترضين على نتائج الانتخابات، والتسبّب بسقوط عدد من القتلى في صفوفهم، بالإضافة إلى أنّه برضى أو سكوت رئيس السلطة القضائية قَبِل بموقف قوى الإطار التنسيقي المتشكّك في نتائج الانتخابات، عندما صادق على ما جاء في البيان الذي اعتبر نتائج الانتخابات “غير موضوعيّة”.

أسقط قبول الكاظمي بالبيان الصادر عن الاجتماع المشترك، مشروع تشكيل حكومة أغلبيّة سياسيّة كان من الممكن أن تشكّل نقطة التقاء بين القوى الدولية والإقليمية على الساحة العراقية

كان من المتوقّع أن يتمسّك الكاظمي بما يمكن وصفه بـ”الخطأ الاستراتيجي” الذي وقع في حادث الاستهداف المسيَّر، وتوظيف أجواء الرأي العامّ الداخلية والخارجية التي وجَّهت أصابع الاتهام إلى أحد الفصائل الموالية لإيران، واستثمار الترحيب الإيراني بنتائج الانتخابات على الرغم من اعتراض القوى المؤيّدة والموالية لها على هذه النتائج، لتكريس مسار إعادة بناء الدولة وتمهيد الطريق أمام عودته بقوّة إلى موقع رئاسة الوزراء، خاصة أنّ طهران لم تبدِ انزعاجاً من الانتكاسة التي لحقت بهذه الفصائل، ولا من تقلُّص حجمها وحضورها في الحياة السياسية من بوّابة الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي يصبّ في سياق ما يدور من كلام في الكواليس عن تفاهمات إيرانية أميركية على توسيع مساحات التعاون على الساحة العراقية بما يسمح ويساعد على إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها مقدِّمةً للتعامل مع مستجدّات المرحلة المقبلة وتداعيات المفاوضات المنتظرة بين الجانبين على ترتيب الملفّات الإقليمية.

أسقط قبول الكاظمي بالبيان الصادر عن الاجتماع المشترك بين الرئاسات الثلاث وقوى الإطار التنسيقي، مشروع تشكيل حكومة أغلبيّة سياسيّة كان من الممكن أن تشكّل نقطة التقاء بين القوى الدولية والإقليمية على الساحة العراقية، خاصّة طهران التي لم تبدِ اعتراضاً واضحاً على الدور المرتقب في هذا السياق لمقتدى الصدر زعيم التيار الصدري، من دون المساس بالموقع والدور السياسي لأحزاب الإطار التنسيقي، خاصة زعيم دولة القانون رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي أعاد فرض نفسه قوّة أساسيّة داخل المكوّن الشيعي والحياة السياسية العراقية بالنتائج المتقدّمة التي حصل عليها في الانتخابات ووضعته في المرتبة الرابعة بعد الكتلة الصدرية الشيعية، وكتلة “تقدّم” السنّيّة بزعامة محمد الحلبوسي، والحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.

إقرأ أيضاً: إيران تردّ في بغداد… على تصعيد السعودية في بيروت؟

إنّ العودة إلى أطروحة “الحكومة التوافقيّة” تعني بالدرجة الأولى إخراج الكاظمي من كونه منافساً حقيقيّاً على منصب رئيس الوزراء المقبل، وتعيد خلط الأوراق، وتُفشل المسار التراكمي الذي عملت عليه قوى الساعة لإضعاف دور وتأثير الفصائل المسلّحة وأحزابها على العمليّة السياسية، وللتأسيس لمرحلة بناء حقيقي للدولة ومؤسّساتها الإدارية والعسكرية حسب أطروحة القوى الرافضة لنفوذ الفصائل. ولهذه الأسباب، دفعت نتائج المواقف الأخيرة وتداعياتها قوى المكوّنات الأخرى السنّيّة والكرديّة إلى التريّث في التمسّك بخيار “حكومة الأغلبيّة” بانتظار توافق قوى المكوّن الشيعي بشقّيه الصدريّ والإطار التنسيقي على الصيغة التوافقية لشكل الحكومة المقبلة، وهو ما يعني في النهاية العودة إلى الآليّات التي سيطرت على العراق في السنوات الماضية في تشكيل السلطة التنفيذية.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…