السعوديّة “تعود” إلى لبنان: 1559 عربيّ

مدة القراءة 7 د

كانت مواقف وزير الخارجية السعوديّ الأمير فيصل بن فرحان إثر القرارات الأخيرة لبلاده بشأن لبنان أكثر المواقف السعوديّة إسهاباً وتفصيلاً في ما يخصّ الوضع السياسي اللبناني منذ انتخاب الرئيس ميشال عون قبل خمس سنوات، أي منذ دخول لبنان مرحلة سياسيّة جديدة عنوانها الرئيسي إمساك حزب الله بقيود الحكم في لبنان.

لذلك فإنّ هذا المنحى الرائج لبنانيّاً في تفسير تلك القرارات السعوديّة على أنّها ذروة التخلّي السعوديّ عن لبنان يناقض تماماً مواقف الوزير بن فرحان التي عكست بوضوح بلوغ اهتمام بلاده بالوضع السياسي اللبناني أوجه، باعتبار أنّ الأزمة اللبنانية الحاليّة بمستوياتها المتعدّدة باتت مصدر خطر كبير لا على لبنان وحسب، وإنّما على المنطقة بأسرها.

لقد كان بن فرحان دقيقاً جدّاً في تحديد الموقف السعوديّ من الوضع اللبناني الراهن بقوله إنّه ليست هناك أزمة مع لبنان، بل أزمة في لبنان بسبب هيمنة وكلاء إيران على مفاصل القرار فيه. ثمّ أضاف أنّ المملكة العربية السعودية ستدعم أيّ جهود لإجراء إصلاح شامل في لبنان يُعيد إليه سيادته وقوّته ومكانته في العالم العربي.

عليه فإنّ موقف رئيس الدبلوماسيّة السعوديّة شديد الوضوح ولا يحتمل التأويل. فهو نفى وجود أزمة بين المملكة ولبنان، أي أنّه نفى تخلّي المملكة عن لبنان أو إدارة ظهرها له. وفي الوقت نفسه، أكّد أنّ الأزمة لبنانيّة بحت، واللبنانيّين مسؤولون عن إيجاد حلّ لها من خلال تصحيح الاختلال السياسي المتمثّل بهيمنة حزب الله على القرار السياسي للدولة اللبنانية، والذي يتيح له تنفيذ أجنداته الإقليمية انطلاقاً من لبنان، ومن بينها دعم الحوثيين الذين يهدّدون أمن المملكة وأمن دول الخليج جميعاً.

لذلك ليست الإجراءات السعودية عدواناً على لبنان كما يشاء حزب الله توصيفها، بل هي جرس إنذار وتعبير عن خشية عربية من أن تؤدّي استعصاءات الأزمة اللبنانية إلى فرض أمر واقع سياسيّ وأمنيّ من جانب الحزب وإيران في لبنان يؤدّي إلى إخراجه من نطاقه الاستراتيجيّ العربي وضمّه قسراً إلى المحور الإيراني، أي جعله ساحة مواجهة دائمة ومنطلقاً لتهديد الأمن القومي العربي، وتحديداً الخليجي.

إنّ القرارات السعودية الجديدة بشأن لبنان هي محطّة مفصليّة في مسار الأزمة اللبنانية، بمعنى أنّ ما بعدها هو حتماً غير ما قبلها، وبالتحديد لجهة التعامل العربي والدولي مع هذه الأزمة. فهذه القرارات ليست “عودة” سعوديّة إلى لبنان بالمعنى السياسي والاستراتيجي وحسب، بل هي باب لـ”عودة” عربيّة – دوليّة إلى لبنان أيضاً. وليس قليل الدلالة في هذا السياق قول الوزير بن فرحان إنّ المملكة في حوار مستمرّ مع الشركاء الدوليين بشأن الملفّ اللبناني.

بهذا المعنى يمكن القول إنّ لبنان دخل مرحلة شبيهة سياسيّاً بمرحلة صدور القرار 1559 في العام 2004 بعدما حاول نظام الوصاية السورية تمديد وتجذير هيمنته على لبنان من خلال التمديد للرئيس إميل لحود. في الواقع كان تصلّب النظام السوري وقتذاك دليلاً على عجزه المتمادي عن إدارة الوضع اللبناني بعد تبدّل المعطيات الجيوستراتيجيّة في المنطقة إثر غزو العراق وفي ظلّ صعود معارضة سياسيّة متنوّعة سياسياً وطائفياً.

والأكيد أنّ الوضع المستجدّ وقتذاك كان يشكّل مصدر قلق مزدوج للمجتمعيْن العربي والدولي. فمن ناحية لن يقبل أحد بتعميق النظام السوري نفوذه في لبنان، ومن ناحية ثانية فإنّ تعميق هذا النفوذ ما عاد ممكناً إلّا بأدوات التوتير والعنف… وبالفعل فقد تمّ اغتيال رفيق الحريري في ظلّ هذا الوضع بالذات.

الآن هناك وضع شبيه لكن أشدّ خطورة. فمن ناحية، لا قبول عربيّاً ودوليّاً بتجذير إيران لنفوذها في لبنان، ومن ناحية ثانية أصبح عجز الحزب عن تقديم مشروع بديل للواقع الانهياريّ دافعاً له إلى اتّخاذ مواقف راديكاليّة سياسيّاً وأمنيّاً، وهذا أيضاً مدعاة لقلق العرب والدوليّين.

هذه القرارات السعوديّة الجديدة تجاه لبنان هي بمنزلة “1559 عربيّ”، بمعنى أنّها إعلانٌ لموقف عربيّ يرفض المسار السياسي اللبناني الراهن، ويخشى في الوقت نفسه أن يؤدّي هذا المسار إلى انفلات الأوضاع في لبنان فيخلق بؤرة عدم استقرار جديدة في المنطقة العربية.

القرارات السعودية الجديدة بشأن لبنان هي محطّة مفصليّة في مسار الأزمة اللبنانية، بمعنى أنّ ما بعدها هو حتماً غير ما قبلها، وبالتحديد لجهة التعامل العربي والدولي مع هذه الأزمة

السؤال الداخليّ

لا شكّ أنّه ستكون للمواقف السعودية الجديدة ارتدادات في الداخل اللبناني، باعتبارها حافزاً قويّاً لاستنهاض واقع سياسي رافض للهيمنة الإيرانية على قرار الدولة اللبنانية. إلّا أنّ تحويل الأزمة الناشئة إلى فرصة سياسية ووطنيّة محكومٌ بالمعادلة الآتية: فمن جهة يقتضي تصحيح الاختلال السياسي الداخلي تعديل موازين القوى الداخلية من خلال تصليب المواجهة السياسيّة مع حزب الله، وهذا يطرح سؤالاً جدّيّاً عن جاهزيّة القوى المناوئة للحزب لمثل هذا التوجّه. ومن جهة ثانية، فإنّ تصليب المواجهة السياسية مع الحزب يجب أن يترافق مع ابتكار خطاب وأدوات سياسيّة تعزّز فرص هذه المواجهة وتقلّص في الوقت نفسه إمكان نقل الحزب للصراع إلى ساحة التوتير الأمنيّ.

ليس اتّهام الحزب لخصومه بأنّهم يسعون إلى الحرب الأهليّة محاولةً لنفي التهمة عن نفسه وحسب، بل هو أيضاً إحدى دلالات مكابرته على مأزوميّته الوطنية لناحية عجزه عن إقناع غالبيّة اللبنانيين بمشروعه على الرغم من فائض نفوذه في اللعبة السياسيّة وداخل الدولة.

والخطير في سلوك الحزب أنّ هيمنته المأزومة تدفعه إلى تصليب تصعيده السياسي وتكثيف عزلته السياسيّة، فهو لا يبحث عن أرضيّة داخليّة لحلول متوازنة للأزمة لأنّه غير مستعدّ للتنازل من دون الاستحصال على أثمان كبرى تُدفع له ولإيران في لبنان.

وللتذكير فإنّ حركة “14 آذار” وفي أوج انتصارها في العام 2005 لم تعزل الحزب، بل عقدت معه “التحالف الرباعيّ” عشيّة انتخابات 2005. لكنّ الحزب لم يرضَ بالتسوية، وسعى إلى قلب المعادلة بدءاً بحرب تموز 2006 وصولاً إلى 7 أيار 2008.

إنّها الاستراتجية الإيرانية التي إمّا تأخذ ما تريد وإمّا تستمرّ في المواجهة بمختلف الوسائل أيّاً تكن التداعيات السلبية على الدولة والمجتمع. غير أنّ التجربة اللبنانية تؤكّد أنّ فائض القوة لأيّ من الجماعات الأهليّة – السياسيّة يصطدم دائماً برفض الجماعات الأخرى الانصياع له أو التسليم بخسارتها أمامه. وهو ما كان يؤدّي دائماً إلى نزاعات وحروب متفاوتة الحجم منذ “أحداث 1958” وصولاً إلى أحداث الطيونة – عين الرمانة.

لكن هذه المرّة دخل عامل جديد على الصراع في لبنان، وتحديداً حول هويّته الاستراتيجيّة، بين محور يؤكّد الهويّة العربية للبنان وآخر يريد إسقاط هذه الهويّة واستبدال بها أخرى مشرقيّة الشكل إيرانيّة المضمون.

إقرأ أيضاً: باريس للرياض: أصبتم وأخطأنا في لبنان

وهذا مغزى كلام الوزير بن فرحان عن مكانة لبنان في العالم العربي، إذ إنّ البديل عن الهويّة العربية للبنان هو جعله ساحة مواجهة دائمة من ضمن المحور الإيراني. وكان اتفاق الطائف، الذي رعته المملكة العربية السعودية لوضع حدّ للحرب الأهلية في لبنان، ثمرة موافقة المسيحيين على الهويّة العربية للبنان في مقابل موافقة المسلمين على نهائيّة الكيان اللبناني. لذا فإنّ إسقاط عروبة لبنان تعني حكماً سقوط الكيان اللبناني. وهذا ليس خطّاً أحمر سعوديّاً وحسب، بل هو عربيّ أيضاً، وهو سببٌ رئيسيّ لرفض المملكة هيمنة “وكلاء إيران على النظام السياسي”. ناهيك بأنّ هذه الهيمنة حوّلت لبنان قاعدة لوجستيّة وعسكريّة لضرب استقرار المملكة بواسطة الحوثيين، في وقت كان المشروع السعودي للبنان ولا يزال مشروع استقرار لا لمصلحة لبنانية وحسب، بل أيضاً لمصلحة سعودية وعربيّة وللأسباب المذكورة أعلاه.  

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…