في شباط من العام 1972، قام الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون برحلة تاريخيّة إلى الصين، شهدت توقيع “بيان شنغهاي” مع رئيس الوزراء الصيني آنذاك تشو إن لاي، والذي اعتُبر بداية ذوبان الجليد بين البلدين، مع إقرار الولايات المتحدة بمبدأ الجمهورية الشعبية المتمثل في “صين واحدة”.
بعد ما يُقارب الـ50 عامًا، عادَ الحديث عن سياسة الصين الواحدة، والتي تعني وجود دولة واحدة ذات سيادة تحمل اسم الصين، وأنّ تايوان هي جزء لا يتجزأ من هذه الصين، بعكس الفكرة السابقة القائمة على وجود وجود دولتين، الأولى هي جمهورية الصين الشعبية، والثانية تايوان.
الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست” ديفيد إغناتيوس لفت إلى أنّ استراتيجية الغموض في التعامل الديبلوماسي طغت على ملف تايوان من الجانب الأميركي، موضحًا أنّ بكين وواشنطن تلتزمان ببيان شنغهاي، بينما يزيد ميول تايوان نحو الإستقلاليّة، ولا أحد يريد حربًا ضد تايوان، لكنّ هناك خشية من الإصطدام بالواقع وتغيّر المسار.
يعتقد المحللون أنّ الصينيين يتوقعون مشاركة الجيش الأميركي بحال نشوب حرب مع تايوان، وأنّ بكين تهدف إلى السيطرة على تايوان في غضون خمسة أيام، قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من إنزال قواتها
أمّا الرئيس الأميركي جو بايدن، فلا يلتزم باستراتيجية الغموض كما ينبغي، وصرّح الشهر الماضي بما يعتقده الجميع، بما في ذلك الصين، بشأن تايوان، وذلك في معرض ردّه على سؤال من شبكة “سي أن أن” إن كان سيدافع عن الجزيرة بحال تعرضت للهجوم من قبل الصين، فردّ بايدن قائلًا: “نعم، لدينا التزام”. وقد قُرأت الإجابة بأنّها تغيير في السياسة الأميركية الرسمية المتمثلة في “الغموض الاستراتيجي”، وسارعت وسائل الإعلام العالمية لنشر الأخبار حول موقف الرئيس، ما استدعى انتباه المسؤولين في البيت الأبيض، الذين أكدوا أنّ بايدن لم يقصد التصعيد، بل ما قاله كان “زلّة لسان”. بينما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين بساكي: “لا يوجد تغيير في سياستنا”. وقد قبل الصينيون بفكرة “الزلّة”، فيما لا يأخذ الناس كلمات بايدن على محمل الجد، وعادَ الغموض.
من جهته، نبّه المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية واشنطن، طالبًا “توخي الحذر في الأقوال والأفعال بما يتعلّق بتايوان، خشية التداعيات التي ستنعكس على الولايات المتحدة والصين”. أمّا المتحدث باسم وزارة الخارجية التايوانية فتوجّه بالشكر لبايدن على “إعادة تأكيد الالتزام الأميركي الثابت تجاه تايوان”.
ووفقًا لإغناتيوس، فإنّ مشكلة تايوان تكمن بأنّ العالم يستمرّ في التدخل في هذه الاتفاقية، فعلى سبيل المثال مسألة الوجود العسكري الأميركي في الجزيرة، حيث يُدرك الصينيون أنّ واشنطن تُرسل قوات لتدريب الجيش التايواني، لكنّ المسألة ضمنيّة، وطالما لم يتحدّث عنها الأميركيون والتايوانيون، تمكّن الصينيون من حفظ ماء الوجه.
ماذا حدث الآن؟ سقطت ورقة التين، على حدّ تعبير إغناتيوس، إذ انتشر فيديو يُظهر قيام الجيش الأميركي بتدريب قوات العمليات الخاصة في تايوان. توازيًا، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنّ عددًا من قوات العمليات الخاصة ومن مشاة البحرية كانوا يدربون الجيش التايواني. وقد أعلنت رئيسة تايوان، تساي إنغ وين ذلك رسميًا في مقابلة الشهر الماضي، قائلةً: “لدينا مروحة واسعة من التعاون مع الولايات المتحدة بهدف تعزيز قدرتنا الدفاعية.”
وربما سيعتقد البعض أنّ الولايات المتحدة تجاوزت “الخط الأحمر” الصيني بهذا الوجود العسكري، لا سيما وأنّ تقريرًا سنويًا للبنتاغون عن الصين أدرج “القوات الأجنبية المتمركزة في تايوان” كواحدة من سبع قضايا قالت الصين إنها قد تستخدم فيها القوة العسكرية ضد الجزيرة.
ولا يمكن للمخططين العسكريين أن يتحمّلوا المزيد من استراتيجيّة الغموض، ويعتقد المحللون أنّ الصينيين يتوقعون مشاركة الجيش الأميركي بحال نشوب حرب مع تايوان، وأنّ بكين تهدف إلى السيطرة على تايوان في غضون خمسة أيام، قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من إنزال قواتها.
وبحال شاركت الولايات المتحدة، فلن تردع مثل الهجوم الصينيّ بحاملات طائراتها التي دخلت بحر الصين الجنوبي، لا سيما مع وجود صواريخ صينية موجهة ودقيقة. ومن أجل توازن القوى، يُمكن أن تعتمد الصين على شراكاتها مع جيران الصين الأقوياء في المحيط الهادئ، إضافةً إلى تعزيز قوّتها تحت سطح البحر، بحسب الكاتب.
من الجانب الصيني، تعهّد الرئيس شي جين بينغ الشهر الماضي بمواصلة إعادة التوحيد بالوسائل السلمية، لكنّ هذا الكلام أتى في أعقاب إرسال الصين طائرات إلى مقربة من المجال الجوي التايواني. ما دفع برئيسة تايوان إلى تحدّي الصين بالقول: “سنستمرّ بتعزيز دفاعاتنا، حتى نتأكّد من عدم تمكن أي شخص من إجبار تايوان على المضي بالطريق الذي حدّدته الصين”.
إقرأ أيضاً: أغناتيوس: أميركا تقود العالم بـ”سياسة التكنولوجيا”
إذًا، في الوقت الراهن، لا يرغب أي طرف بنشوب حرب، لا سيما الصين التي ترى أنّ الحرب ستؤثّر بخططها الإقتصاديّة والإبتعاد عن “حلم الصين”. أمّا رئيسة تايوان فأقرّت بأنّها لا تريد أكثر من “الحفاظ على الوضع الراهن”، كما أنّ الولايات المتحدة لا تريد حربًا، خصوصًا وأنّ مناورات البنتاغون تتوقّع الخسارة.
واختتم إغناتيوس مقاله بالإشارة إلى أنّ الغموض لن يستمر إلى ما لا نهاية، وعندما يُعلن الرئيس الصيني عن تصميمه بتحقيق إعادة توحيد الصين، يجدر بباقي الدول أن تأخذ الأمر بجدية.