في كلّ مرّة حاول لبنان الابتعاد عن مداه العربيّ، وخرق حدود التوازن في سياسته الخارجيّة، كان ينعكس ذلك زلازل سياسية وأمنيّة وعسكرية.
نظرة بسيطة على التاريخ اللبناني الحديث تسمح بالخروج بهذا الاستنتاج:
1- لنعد إلى الخمسينيّات، وتحديداً عهد الرئيس كميل شمعون، أو “فخامة الملك”، كما سمّاه الإعلامي جورج غانم ، نظراً إلى أنّه أكثر الرؤساء الذين مارسوا صلاحيّاتهم في تلك الفترة إلى حدّ كسر التوازنات مع القوى الأخرى.
تجلّى ذلك في مسألتين أساسيّتين:
– الأولى ذات بعد إقليمي دولي، وهي الانخراط في حلف بغداد.
– والثانية ذات بعد داخلي، وتتعلّق بقانون الانتخابات الذي أقرّه شمعون في العام 1957 وأسقط به كلّ خصومه في الانتخابات النيابية ليفتح طريق تمديد ولايته أو تجديدها، وكان كمال جنبلاط من بين مَن استهدفهم القانون وأسقطهم في الانتخابات.
حاليّاً يشهد لبنان إعادة إنتاج الصراع على هويّته، بين الثابت العربي، وبين ما هو متخيّل أو وهميّ، بالتوجّه شرقاً كمفهوم اقتصادي أو بعد تنفّسي للبلد يركّز عليه حزب الله
أدّى هذان الاتجاهان إلى خلق توتّرات أمنيّة انتهت بصراع عسكري أُطلِق عليه اسم “ثورة 1958″، التي كانت ردّة فعل على الإنزال الأميركي على الشواطئ اللبنانية. فكانت الحرب التي أطاحت بشمعون، ثمّ أُعيد التوازن إلى اللعبة السياسية اللبنانية من خلال انتخاب الرئيس فؤاد شهاب وإعادة تعزيز العلاقة مع الدول العربية، ومن بينها مصر ودول الخليج، فاستعيد التوازن الداخلي أيضاً.
2- في العام 1975، اندلعت الحرب الأهليّة نتيجة تراكم مقوّمات الصراع على هويّة البلد لجهة السياسة الخارجية، والصراع على السلطة في الداخل الذي اتّخذ طابعاً طبقياً أو صراعاً بين اليمين واليسار. فقادت الحركة الوطنية ثورتها التي انتهت بحرب أهليّة وبتدخّلات إقليمية ودولية أنتجت الدخول السوري إلى البلد، فاشتعلت الحرب وانقسم البلد بين طرف يريد الاستمرار بالعلاقة مع الغرب وجزء من العرب حصراً، وطرف آخر يريد الاتحاد السوفياتي وجانباً آخر من الدول العربية.
3- في العام 1983، عقد الرئيس أمين الجميّل اتفاقية 17 أيار مع إسرائيل، وكان معه رئيس الحكومة شفيق الوزّان، وهو الأضعف بين رؤساء الحكومات في تاريخ لبنان، فانتهت محاولة كسر التوازنات هذه بانتفاضة 6 شباط.
4- نصل إلى الاتفاق الثلاثي في العام 1985 وما جرى على الساحة المسيحية، بدءاً من انتفاضة سمير جعجع على إيلي حبيقة، وصولاً إلى الحروب في المنطقة الشرقية التي أضعفت المسيحيين.
يمكن الاستدلال على ذلك بالواقع القائم اليوم حيث حزب الله هو القوة الأبرز في البلد. وتشبه مجريات التطوّرات العراقية التي أُصيب فيها حلفاء إيران بخسائر كبيرة شعبياً وانتخابياً نتيجة مواجهات شيعية – شيعية، ما تكبّده المسيحيون في لبنان من خسائر نتيجة الحروب المسيحية – المسيحية.
ثم جاء اتفاق الطائف ووضع حدّاً للمعركة على السلطة والنفوذ، وأرسى مبدأ التوازن والمناصفة، وثبّت أنّ لبنان ذو وجه عربي.
يمكن الاستدلال على ذلك بالواقع القائم اليوم حيث حزب الله هو القوة الأبرز في البلد. وتشبه مجريات التطوّرات العراقية التي أُصيب فيها حلفاء إيران بخسائر كبيرة شعبياً وانتخابياً نتيجة مواجهات شيعية – شيعية، ما تكبّده المسيحيون في لبنان من خسائر نتيجة الحروب المسيحية – المسيحية
حاليّاً يشهد لبنان إعادة إنتاج الصراع على هويّته، بين الثابت العربي، وبين ما هو متخيّل أو وهميّ، بالتوجّه شرقاً كمفهوم اقتصادي أو بعد تنفّسي للبلد يركّز عليه حزب الله. علماً أنّ كلّ الدول المحسوبة على هذا “الشرق” تعيش أزمات سياسية وعسكرية وأمنيّة واقتصادية وماليّة، وكلّها تندفع إلى الذهاب نحو الغرب. يحاول الممانعون إنتاج هويّة متخيّلة تقوم على الجمع بين القومية السورية أو تحالف الأقليات أو التحالف المشرقي. وكلّها غايتها إبعاد لبنان عن عروبته. لذا ترى اللبنانيين منقسمين بين اتجاهات متعدّدة، بعضها يعتبر أنّه لا بد من إعلان “الحياد”، وبعضها الآخر يريد التوجّه نحو المحور “الإيراني الشرقي”، مقابل بعض يتمسك بـ”عروبة البلد” ومداه العربي.
يأتي هذا الصراع في ظلّ انهيارات ماليّة واقتصادية، ووسط مساعٍ من حزب الله لتكريس سطوته وسيطرته على البلد وعلى سياسته الخارجية بما يتلاءم مع المشروع الإيراني وفي مواجهة الدول العربية. وغالباً ما أثبتت التجارب أنّ أيّ محاولة لانسلاخ لبنان عن هويّته الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، تنتهي بحرب أهليّة أو بمعارك متنقّلة.
كمال جنبلاط وكميل شمعون
بالعودة إلى الاستناد التاريخي، وفي فترة الصراع وتوهّجه بين كمال جنبلاط وكميل شمعون، كان السُنّة هم صمام الأمان وأصحاب المبادرة لاستعادة التوازن من خلال صيغة الرئيس صائب سلام التي سعى إلى تكريسها وفق منطق “لا غالب ولا مغلوب”. وحتى عندما انخرط الرئيس شفيق الوزان في اتفاق 17 أيار، لفظته قوّة التوازن اللبنانية، وهو ما حدث أيضاً مع الرئيس حسان دياب عندما انخرط في مشروع تغريب لبنان عن كيانيّته وهويّته الاقتصادية والماليّة والسياسية.
وفي العقد الأخير وقع كلٌّ من نجيب ميقاتي وسعد الحريري في المحظور نفسه. فعندما وصل ميقاتي إلى رئاسة الحكومة في العام 2011، وقعت القطيعة مع العرب وجرى التأسيس لسيطرة حزب الله السياسية على البلد. لاحقاً وقع الحريري في الحفرة نفسها إثر مشاركته في خطيئة التسوية الرئاسية مع ميشال عون وربط النزاع مع حزب الله وإدارته السيّئة لهذه التسوية التي أدّت إلى خسارته العرب ومعظم الحلفاء ومراكز القوى في لبنان.
حالياً يعيد ميقاتي التجربة عينها على وقع الأزمة مع دول الخليج، انطلاقاً من تمسّكه بمنصبه في رئاسة حكومة معطّلة، وفي ظلّ تعطيلها وذهابها إلى حالة تصريف الأعمال. فهو لا يتمتّع بأيّ صلاحيّة، إذ يتغلّب عليه الوزراء بصلاحيّاتهم وبإدارتهم لوزاراتهم. وقد جاءت الأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج لتكرِّس مسألة سيطرة حزب الله على الحكومة بعدما رفض وزير الإعلام جورج قرداحي الاستقالة، وأخذ الحزب الحكومة إلى معركة مباشرة بمواجهة دول الخليج العربي. وهكذا أصبحت الحكومة حكومة حزب الله. يأتي ذلك على وقع التوتّر في المنطقة ككلّ، والتصعيد الإيراني المستمرّ الذي يستبق استئناف جلسات التفاوض مع الأميركيّين في فيينّا.
في ظلّ هذه الوقائع، لا بدّ من النظر إلى ثلاثة عوامل أساسية:
– الأول: عامل المكوّن السنّيّ الذي لا بد له من اتّخاذ موقف يتعارض مع توجّهات ميقاتي، وأن يسحب الغطاء من الحكومة ومن حزب الله.
– الثاني: هو الأفرقاء المسيحيون، البطريركية المارونية والمطران الأرثوذكسي الياس عودة وقوى سياسية مسيحية أخرى، الذين يجب أن ينخرطوا في رفض هذا المشروع الجهنّميّ الذي ستكون أوّل انعكاسات تداعياته على المسيحيين وحضورهم ودورهم ووجودهم.
– أمّا العامل الثالث: فهو وليد جنبلاط ومواقفه التي قد تمثّل في هذه المرحلة الدقيقة بوصلة للاتجاه السياسي. صحيح أنّ الرجل يهادن ومعروف عنه أنّه صاحب مبادرات لعقد التسويات، لكنّ التسوية المطلوبة هي التي ترسي التوازن وليست تلك التي تكون ذات بعد استسلاميّ أو انبطاحيّ. ويمكن قراءة ذلك في النتائج السياسية التي يحقّقها وليس باستشعار العامل العاطفي أو المعنوي. في مثل هذه الحالات، غالباً ما تكون المختارة وآل جنبلاط هم أصحاب البوصلة والمبادرة، أوّلاً لتثبيت عروبة لبنان، وثانياً لإطلاق موقف “للتاريخ”، وثالثاً لاستعادة التوازن كما فعل جنبلاط يوم اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
إقرأ أيضاً: إستقالة ميقاتي: رفع الغطاء عن الحزب!
مساء الإثنين أطلق جنبلاط المؤشّر إلى أنّه لا بدّ من الوقوف. الموقف هنا لا يعني الذهاب إلى صدام ولا إلى توتّر، إنّما استجماع خيوط اللعبة والتركيز على مبدأ توازن لبنان في علاقاته الخارجية، بشرط أن يتلاقى السُنّة والمسيحيّون مع جنبلاط.
كان قد سبقه سمير جعجع في تشرين الأوّل الفائت على طريقته، حين انضمّ إلى “المواجهة” في الطيونة. وسبق الإثنان البطريرك بشارة الراعي بدعوته إلى “الحياد”. ويبقى انتظار الطرف السنّي، الغائب في السياسة، والغائب عن هذه المواجهة.