في يومٍ وليلة، تناثرَت الإيجابيّة التي خيّمت على أجواء “طاولة بغداد” التي جمعت المملكة العربيّة السّعوديّة والجمهوريّة الإسلاميّة في إيران للمرّة الأولى منذ سنوات. لم يستطع الطّرفان المُختلفان على كلّ ملفّات المنطقة من سواحل البحر الأبيض المُتوسّط في لبنان وسوريا إلى ضفاف دجلة والفرات في العراق، وصولاً إلى اليمن ومياه الخليج العربيّ، أن يتجاوزا عقدةً واحدةً منها، وهي الملفّ اليمني.
في حاضرة العبّاسيين بغداد كان اللقاء الرّابع والأخير بين وفديْ البلديْن في أواخر أيلول الماضي. عن هذا اللقاء، كشفَت مصادر أمنيّة عراقيّة رفيعة المستوى لـ”أساس” أنّه على الرّغم من “الودّ” المُتبادل بين الجانبيْن، إلّا أنّ مُجريات الأحداث في محيط مُحافظة مأرب اليمنيّة كانت أقوى من جميع النّوايا السّعوديّة والإيرانيّة وحتّى العراقيّة، والنّتيجة توقّف المفاوضات.
مصدر دبلوماسيّ سعوديّ لـ”أساس” أنّ كلام وزير الخارجيّة السّعوديّ فيصل بن فرحان عن أنّ المُحادثات مع إيران “لا تزال استكشافيّة” كان رسالة لطهران للتّعقّل، ورسالة دبلوماسيّة حازمة أنّ المملكة لن تمضي في الحوار لمجرّد تبادل الابتسامات والنّوايا الحسنة
كشفت المصادر عن تبايناتٍ جوهريّةٍ بين الرّياض وطهران حول ترتيبات المُحادثات للانطلاق نحو الحلول.
تُريدُ المملكة العربيّة السّعوديّة من إيران أن تلعبَ دوراً جدّيّاً لإحلال السّلام في اليمن عبر الضّغط على ميليشيات الحوثي للسّير بالمبادرة السّعوديّة التي كان وزير الخارجيّة السّعوديّ الأمير فيصل بن فرحان قد أعلنَها في آذار 2021. وفي الجلسات الـ3 الأولى، طلبَ السّعوديّون من وفد طهران أن تضغط بلاده على الحوثيّين لوقف إطلاق النّار على كلّ جبهات اليمن، والبدء بعمليّة سياسيّة، وتجنّب بحر دماءٍ في مأرب. لم يستجب الإيرانيّون لهذا الطّلب، ووضعوا كلّ ثقلهم أخيراً في محاولة لحسم معركة مأرب التي تُعتبر بالنّسبة إليهم “أمّ المعارك” في اليمن.
في المُقابل، طالب الإيرانيّون بعودة العلاقات الدّبلوماسيّة الكاملة بين البلدين كخطوة أولى نحو بحث الملفّات العالقة، فيما كانت المملكة تربط أيّ عودة كاملة للعلاقات الدّبلوماسيّة بتقدّم المفاوضات بشأن اليمن، إلّا أنّها عرضَت في الوقت عينه إعادة افتتاح القنصليّة الإيرانيّة في مدينة جدّة السّعوديّة.
وعندَ كلّ حديثٍ عن اليمن، كانَ وفد طهران يتنصّل من ميليشيات الحوثي، ويدعو السّعوديين إلى التّفاوض مع الحوثي بشكلٍ مباشرٍ، وهذا ما ترفضه السّعوديّة على اعتبار أنّ الحوار ينبغي أن يكون بين الأطراف اليمنيّة انطلاقاً من المُبادرة السّعوديّة.
وعلمَ “أساس” أنّ القشّة، التي قصمت ظهرَ “الطّاولة”، هي طلبُ إيران في اللقاء الأخير من السّعوديين التّحاور مع حزب الله اللبنانيّ عوضاً عن الإيرانيين باعتباره أقرب إلى الحوثيين منه إلى الحرس الثّوريّ. وعرضَ الإيرانيّون على السّعوديين ما سمّوه “تسهيلات” و”التّوسّط” لدى حزب الله لبدء طاولة مُفاوضات بين المملكة والحزب في الضّاحية الجنوبيّة لبيروت.
لم يلقَ هذا الطّلب أيّ قبُولٍ من الجانب السّعوديّ الذي يُصنّف الحزبَ منظّمةً إرهابيّة. وترفضُ الرّياض بشكلٍ قاطعٍ منح الحزب أيّ “شرعيّة إقليميّة” على اعتبار أنّه طرفٌ ينضوي تحت لواء فيلق القدس بالحرس الثّوريّ الإيرانيّ المعنيّ الأوّل بكلّ الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة. ولم تستبعد مصادر “أساس” أن تكون الإجراءات السّعوديّة الأخيرة اتّجاه لبنان بمنزلة ردٍّ سعوديٍّ على الطّلبات الإيرانيّة غير الواقعيّة وعلى محاولة طهران الالتفاف على طاولة المفاوضات بإطلاق معركة مأرب.
من بلاد الرّافديْن إلى أرض الحرميْن، حيث اعتبرَ مصدر دبلوماسيّ سعوديّ لـ”أساس” أنّ كلام وزير الخارجيّة السّعوديّ فيصل بن فرحان عن أنّ المُحادثات مع إيران “لا تزال استكشافيّة” كان رسالة لطهران للتّعقّل، ورسالة دبلوماسيّة حازمة أنّ المملكة لن تمضي في الحوار لمجرّد تبادل الابتسامات والنّوايا الحسنة من دون تحقيق أيّ خرقٍ جدّيّ يصبّ في مصلحة المنطقة وشعوبها.
وقال المصدر إنّ “المملكة تُدرك أنّ طهران استغلّت انشغال العراق بالانتخابات البرلمانيّة لمحاولة جمع “أوراق قوّة” في اليمن للمراحل المُقبلة من الحوار. لكنّ ما يحدث في اليمن قد يضيّع فرصة استئناف الحوار، وهي فرصة قد لا تتكرّر قريباً”.
وقال إنّ إيران لا تزال تُناور منذ الجلسة الأولى في نيسان الماضي، إذ “تجلسُ في بغداد وعقلها في فيينا”، على أمل أن تُفاوض المملكة جدّيّاً وهي من دون عقوبات، وتبسط سيطرتها على مأرب، وتُغدق الأموال على ميليشياتها في المنطقة، وسأل: “لكن هل تقبل المملكة بالحوار حينئذٍ؟ على الإيرانيين أن يكونوا عقلانيين”.
إقرأ أيضاً: تفاصيل المخرج السرّيّ لإنقاذ الاتّفاق النّوويّ… هل ينجح؟
وفي الوقت عينه، لفت المصدر إلى أنّ الضّغوط الإيرانيّة على رئيس الوزراء العراقيّ مُصطفى الكاظمي لمنعه من الوصول إلى ولاية جديدة لا تصبّ أبداً في مصلحة إعادة إصلاح العلاقات بين البلديْن، إذ إنّ أيّ إخلالٍ في توازن العراق السّياسي ستعتبره الرّياض مُماثلاً لاختلال التّوازن الذي أوجده التّدخّل الإيرانيّ في لبنان.
على وقع اشتعال جبهة مأرب في اليمن، تجمّدت المُحادثات في بغداد، واشتعلَت في لبنان. وردّت إيران عبر ميليشياتها في المنطقة الخضراء في العراق.
من سواحل المُتوسّط إلى سواحل البحر الأحمر والخليج العربيّ، يترقّب المُتابعون الفعل وردّة الفعل، ويتساءلون: متى تكون اللكمة القاضية لكسر طاولة بغداد إلى الأبد؟