الثورة الفلسطينية: مسيرة الأرقام القياسيّة في السلب والإيجاب

مدة القراءة 5 د

ينشر “أساس”، بدءًا منذ الأمس، سلسلة مقالات وتقارير تحاول قراءة أبرز أحداث 2021، وما ستتركه من تداعيات على العام الجديد 2022.

 

سبع وخمسون سنة هي عمر الثورة الفلسطينية، أي أنّها أطول ثورة وطنية في التاريخ المعاصر. هكذا كان يصفها متباهياً زعيمها التاريخي ياسر عرفات، حين كانت في الأربعينيّات من عمرها.

في نهاية العام 2021، ننظر إلى الوراء، فنجد أنّ هذه الثورة الطويلة العمر تميّزت بتحقيقها أرقاماً قياسية. فهي أكثر مَن قدّم تضحيات من الشهداء والجرحى والمعتقلين واللاجئين والنازحين، وهذا الرقم القياسي من التضحيات لم يتوقّف، بل هو مرشّح للازدياد، خصوصاً أنّ إمكانات بلوغ هذه الثورة لهدفها الأساسي آخذة بالتراجع.

بعد سبع وخمسين سنة من انطلاق الثورة الفلسطينية مع ما أخفقت فيه وما أنجزته، ينبغي الاعتراف بوجود ازدواجية أو ثنائية يتعيّن رؤية وتقويم الحالة الفلسطينية من خلالها

وقد حقّقت هذه الثورة أيضاً رقماً قياسياً في خسارة الجغرافيات التي تُسمّى بساحات الوجود والعمل. ففي العام 1970/1971 خسرت الجغرافيا الأهمّ: الأردن. وبعدها خسرت الجغرافيا التي تليها في الأهميّة: لبنان. ولئن احتفظت بوجود محدود الفاعليّة على الجغرافيا السورية، إلّا أنّه كان وجوداً فيه من الأعباء أكثر من المزايا.

وحقّقت أيضاً رقماً قياسياً في تغيير البرامج والأهداف. إذ انطلقت لتحرير فلسطين التي اُغتُصبت في منتصف القرن الماضي وصارت إسرائيل، ثمّ حدث تغييرٌ عُنوانه “كفاح لإقامة دولة ديموقراطية على أرض فلسطين التاريخية يتعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون ضمن حقوق متساوية”. ثمّ انتقل القوم إلى المرحليّة وعنوانها “إقامة سلطة وطنية على أيّ شبر من الأرض يندحر عنه الاحتلال”. ثمّ أُلغيت كلمة “المرحليّة” لأنّها تحمل معنى إبادة دولة إسرائيل في النهاية، وحلّ محلّها هدف مختلف هو “إقامة دولة فلسطينية مستقلّة على الأراضي التي اُحتُلّت في العام 1967، بما فيها القدس الشرقيّة”.

أمّا التحوّل الأكبر على صعيد البرامج والأهداف فهو الاعتراف الفلسطيني الرسمي الموثّق بحقّ إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها، مقابل اعتراف إسرائيلي أقلّ أهميّة بمنظمة التحرير ممثّلاً شرعيّاً وحيداً للشعب الفلسطيني.

وحقّقت المسيرة الطويلة رقماً قياسياً في الانقسامات، آخرها وأخطرها الانقسام الراهن الذي دام أربعة عشر عاماً، وما يزال، وأنتج كيانين متصارعين، وشرعيّتين متنابذتين، وبرنامجين متناقضين بين غزة ورام الله…

غير أنّ هذه الرحلة الطويلة التي امتدّت على مساحة نصف القرن العشرين وربع القرن الحادي والعشرين، لم تكن عارية عن إنجازات ذات شأن تتّصل بالشعب الفلسطيني وقضيّته، إذ أسّست الثورة المعاصرة هويّة سياسية معترفاً بها لشعب كاد يذوب في المنافي أو يلحق بكيانات أخرى.

وانتقلت القضية إلى موقع جديد صارت فيه وما تزال واحدة من أهمّ القضايا التي فرضت وجودها على الحياة الدولية مهما بلغ المدّ والجزر من حولها وحتى من داخلها.

 

ازدواجية فلسطينية

بعد سبع وخمسين سنة من انطلاق الثورة الفلسطينية مع ما أخفقت فيه وما أنجزته، ينبغي الاعتراف بوجود ازدواجية أو ثنائية يتعيّن رؤية وتقويم الحالة الفلسطينية من خلالها. الأولى مأساوية عنوانها وموضوعها الطبقة السياسية الخالدة المخلّدة التي إن لم تكن المسؤولة وحدها عن التراجع الكارثي الذي بلغ أشدّه في هذا الوقت، فهي وحدها المسؤولة عن الفشل في معالجة القضايا الأساسية التي أوصلت الوضع الفلسطيني إلى أسوأ حالاته. وليس الانقسام وحده هو الكارثة، بل إنّ عدم إيجاد بدائل ناجعة عن فشل الرهانات السياسية القائمة على التسوية يوازي الانقسام في كارثيّته، وصار حال الطبقة السياسية المتشبّثة كحال “المُنْبَت” الذي “لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى”. فانخفض الجهد الفلسطيني بفعلها إلى مستويات متدنّية الأهداف، كتدبير شؤون الحياة اليوميّة للناس من دون نجاحات لافتة حتى على هذا الصعيد. والأمر لا يختلف الوضع فيه بين غزّة والضفّة. أمّا باقي مكوّنات الشعب الفلسطيني التي توجد في المنافي، فحسبها ضعف منظمة التحرير حدّ التلاشي، إذ كانت الوعاء الأهمّ لوحدتهم وانتمائهم الوطني، فضلاً عن أنّها إطار إجماع على أنّها الممرّ المؤدّي إلى الدولة.

الجزء الآخر من الثنائية، وهو الأكثر أهمّيةً ورسوخاً، هو المجتمع الفلسطيني الذي يجسّد في كلّ حالات المدّ والجزر الرصيد القوي والمتنامي الذي يحمي القضية الوطنية والحقوق الأساسية من الذوبان والانقراض. فأينما وُجد فلسطينيون على أرض الوطن أو في الشتات وُجد إبداع حضاري وإنساني لافت عبر إسهامات فعّالة في بناء الكيانات والتطوّر في كلّ مجالات الحياة. وما يبدو قريباً من المعجزة أنّ الانتشار الفلسطيني في كلّ مكان من هذا العالم الواسع، وبكلّ ما فيه من إغراءات الهويّات المستجدّة ومزاياها، لم يُثنِ الفلسطينيّين، حتى أولئك الذين يحملون أكثر من جنسية، عن مواصلة الاحتفاظ بالهويّة الأصلية العميقة والشعور الجمعي بأنّ ما هو أهمّ وما هو هاجس ما يزال مفقوداً، هو الوطن الأصلي. وهذا هو الرصيد، بل هو التجسيد الواقعي والعمليّ لمقوّمات دائمة ومتجدّدة لوجود شعب حيويّ وفعّال عصيّ على الإلغاء، يسعى وراء حرّيته واستقلاله، وهذا ما يُخيف خصومه فيما يفضي فشل الطبقة السياسية إلى ما يريح الخصوم.

إقرأ أيضاً: تركيا: دبلوماسية تقاسم المصالح

هذه وباختصار شديد هي الصورة الفلسطينية ذات الازدواجية المتفرّدة، وهذه هي حكاية الأرقام القياسية في مجال السلب والإيجاب، وهذه هي في الخلاصة كلمة السرّ ليس في البقاء على قيد الحياة لشعب عاكسته الأقدار طويلاً وما تزال، بل أيضاً على قيد الفعل والتجدّد والتقدّم.

مواضيع ذات صلة

العربُ بين عامَين: دول صعدت وأخرى نزلت

بدأ “أساس”، منذ اليوم الأخير في 2021، بنشر سلسلة مقالات وتقارير تحاول قراءة أبرز أحداث العام الماضي، وما ستتركه من تداعيات على العام الجديد 2022….

2021: عام التخبّط الفرنسي

بدأ “أساس”، منذ اليوم الأخير في 2021، بنشر سلسلة مقالات وتقارير تحاول قراءة أبرز أحداث العام الماضي، وما ستتركه من تداعيات على العام الجديد 2022….

مصر 2021.. رئيس و22 ملكاً

بدأ “أساس”، منذ اليوم الأخير في 2021، بنشر سلسلة مقالات وتقارير تحاول قراءة أبرز أحداث العام الماضي، وما ستتركه من تداعيات على العام الجديد 2022….

العراق: 8 فرص ضاعت… والآتي أصعب

بدأ “أساس”، منذ اليوم الأخير في 2021، بنشر سلسلة مقالات وتقارير تحاول قراءة أبرز أحداث العام الماضي، وما ستتركه من تداعيات على العام الجديد 2022….