ينشر أساس بدءًا من اليوم سلسلة مقالات وتقارير تحاول قراءة أبرز أحداث 2021، وما ستتركه من تداعيات على العام الجديد 2022.
ليس سهلاً القيام بجردة حسابات لشريط الأحداث المهمّة في تركيا وهي تودّع العام 2021. تركيا دائماً في قلب المشهد الإقليمي شئنا أم أبينا. مرّة لها ومرّة عليها. لا يمكن الفصل بين تطوّرات المشهد الداخلي السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد وبين أحداث الدوائر الجغرافية المحيطة عربياً وإقليمياً وإسلامياً. اختارت تركيا هذا النوع من التداخل والتشابك في رسم سياساتها منذ قرن وأكثر، وهي تتحمّل ارتدادات ونتائج ما يجري بكلّ إيجابيّاته وسلبيّاته. تهادن مرّة وتصالح وتقترب مرّة أخرى، لكنّها تصعّد وتعادي وتبتعد مرّة ثالثة. هذه حالتها مع دول الجوار ومع الغرب. حليف يتحوّل فجأة إلى خصم، وخصم يصبح حليفاً بعد أيام، فلماذا يكون العام 2021 مختلفاً؟
دعمت أنقرة نظرية تصفير المشاكل عام 2009، لكنّها وجدت نفسها بعد أعوام تتبنّى الدبلوماسية الخشنة المصحوبة بالاستنفار السياسي والعسكري على أكثر من جبهة في ليبيا وسوريا والعراق وجنوب القوقاز وشرق المتوسط. غرّدت للربيع العربي وهي تحلم بالقيادة الإقليمية، فحلّ الشتاء في علاقاتها مع جيران وحلفاء وشركاء الأمس القريب، محمّلاً إيّاها الأعباء الباهظة، ثمّ فرض عليها في العام 2021 العودة إلى خط البداية، كما كانت الأمور عليه قبل عقد. فأعلنت الرغبة بالانفتاح ووجّهت الرسائل التفاؤلية إلى القاهرة والرياض وأبو ظبي وتل أبيب. دافعت عن “العزلة الثمينة” وهي تصعّد مع القريب والبعيد، ثمّ اكتشفت سريعاً أن لا فرص حقيقية لها من دون دبلوماسية “تقاسم المصالح ولنربح معاً” في إطار أجواء التصالح وتبادل الخدمات وحتميّة التنسيق لتجاوز الصعوبات، ووصلت تركيا اليوم إلى إعلان “استعدادها للقيام بما يلزم للحدّ من التوتّرات في المنطقة”.
يثبت إردوغان وهو يودّع العام 2021 أنّه حافظ على موقعه مرّة أخرى بفضل براغماتيّته في تجاوز عقبات الداخل والخارج
دخلت تركيا خلال الشهرين الأخيرين من العام 2021 في مسار جديد وهي تتعامل مع العديد من القضايا المحليّة والإقليمية. أوّلاً كان هناك إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، قبل أيام من انتهاء العام، أنّ هدف حكومته هو الدفاع عن مستقبل المواطنين الأتراك وعملهم ولقمة عيشهم، وأنّ “قيمة الفوائد المصرفية ستنخفض، لن ندع الفوائد تسحق شعبنا ومزارعينا.. مهما فعلوا لن نتراجع عن الإنتاج وخلق فرص العمل وعن برنامجنا الاقتصادي المعلن”. بعد أيام فقط نفّذ إردوغان خطته الماليّة الصادمة التي أعادت إلى الليرة التركية خلال ساعات 30 في المئة من قيمتها المفقودة.
النتيجة الثانية بالنسبة لإردوغان وحزبه وحليفه حزب الحركة القومية كانت استرداد الكثير من المعنويات التي تراجعت أمام أرقام استطلاعات الرأي المقلقة حول انخفاض شعبية تحالف الجمهور الذي يقود المشهد السياسي في البلاد. النتيجة الفورية الثالثة كانت تجديد إردوغان رفضه لدعوات أحزاب المعارضة إلى تقديم موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّرة في حزيران عام 2023. لِمَ لا والداخل التركي يتحدّث عن نجاح الخطة الماليّة الاقتصادية الجديدة حتى الآن والتي ساعدت على استرداد الهدوء الماليّ في الأسواق بعد أشهر من التشنّج والتوتّر نتيجة فقدان الليرة التركية لأكثر من نصف قيمتها منذ مطلع العام. ثمّ تُوِّج كلّ ذلك بتبنّي حزب العدالة نهجاً جديداً في التعامل مع الكثير من الملفّات الإقليمية الدائمة السخونة، وعلى رأسها العلاقات مع العديد من الدول العربية وتطوّرات المشهد في ليبيا وشرق المتوسط وجنوب القوقاز.
الألفية التركية
يثبت إردوغان وهو يودّع العام 2021 أنّه حافظ على موقعه مرّة أخرى بفضل براغماتيّته في تجاوز عقبات الداخل والخارج من خلال قراءة جديدة لمتطلّبات المرحلة تُخرِج البلاد من أزماتها وتُبقي حزب العدالة والتنمية في قلب المشهد. وها هو الرئيس التركي يقول: “علينا أن نواصل إدارة شؤون تركيا حتى العام 2071 الذي يوافق مرور ألف عام على معركة مالازغيت بين السلاجقة والبيزنطيين، وليس الاكتفاء بالتجديد عام 2023 الذي يوافق الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية التركية. لم تكن سياسة الانفتاح الإقليمي كافية لحلّ مشاكل الداخل، إذ لا بدّ أن يواكب ذلك تحقيق اختراقات ملموسة في مواجهة الأزمات الماليّة والاقتصادية والمعيشية.
من المبكر جدّاً الحديث عن نتائج حقيقية لسياسات المواجهة على أكثر من جبهة داخلية وخارجية. فهناك ملفّات دائمة السخونة تنتظر، بينها حصيلة الخطة المالية الجديدة المعلنة وارتداداتها على أرقام الغلاء والبطالة والتضخّم، ثمّ في القضايا الإقليمية يبرز الملفّ السوري والتطوّرات المتلاحقة في شمال العراق وشرق المتوسط والعلاقة المتدهورة مع أميركا وإسرائيل واليونان والاتحاد الأوروبي، وكلّها تحيط بها حالة من الترقّب وانتظار حدوث التحوّلات الكبيرة نحو الانفراج والحلحلة، وهذا ما تراهن عليه اليوم حكومة إردوغان على أمل حصد ثماره في العام المقبل.
من الممكن القول إنّ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، ومواقفه حيال تركيا والعديد من دول المنطقة، هي التي حرّكت هذا التحوّل في سياسات تركيا لتجنّب ارتدادات التموضع الأميركي الإقليمي وأضراره. ومن الممكن القول أيضاً إنّه اعتباراً من النصف الثاني من العام الحالي بدأت تصل الرسائل الإيجابية الانفتاحية حيال النهج التركي الإقليمي الجديد، سواء من القاهرة أو الرياض أو أبو ظبي. لكنّ نتائج اللغة التصالحية واللقاءات الاستكشافية والجهود التي تبذلها الدبلوماسية التركية، بالتنسيق مع رئاسة جهاز الاستخبارات، تحتاج إلى بعض الوقت لتكتمل. فقد تبدأ الإجابة في الظهور إلى العلن اعتباراً من الأشهر الأولى من العام الجديد.
يعرف إردوغان وحزبه أنّ الملفّات الخلافية الإقليمية لعبت دوراً أساسياً في الأعوام الأخيرة في صبّ الزيت فوق نار العلاقات بين أنقرة والعديد من دول المنطقة، وأنّ إعلان الرغبة في التهدئة والحلحلة لن يكفي لوحده. فهناك أميركا التي تستثمر عسكرياً في اليونان وفي شرق الفرات بعدما وصلت إلى طريق مسدود مع حكومة العدالة والتنمية. وهناك موسكو التي تحاول محاصرة تركيا أكثر فأكثر في الملفّ الأوكراني وفي البلقان. وعلينا أن لا ننسى باريس التي تريد العودة إلى معادلة جنوب القوقاز على خطّ الحوار الأرمني الأذري، وإلى سوريا عبر الورقة الكردية. وينبغي أيضاً إرضاء وطمأنة اللاعبين المؤثّرين في هذه الملفّات من خارج المنطقة.
دخلت تركيا خلال الشهرين الأخيرين من العام 2021 في مسار جديد وهي تتعامل مع العديد من القضايا المحليّة والإقليمية
فهل تذهب أنقرة في العام المقبل نحو سياسة انفتاحية جديدة في علاقاتها مع هذه العواصم التي تستطيع التأثير في مسار حوارها مع دول الجوار الإقليمي؟
كانت تركيا تعوِّل في سياستها الخارجية الكلاسيكية على اصطياد الفرص الاستراتيجية والانفتاح على الجميع لحماية مصالحها. قبل 4 أعوام دخلت في لعبة المواجهة المباشرة أو التلويح بها لحماية مصالحها. هذه المرّة وبعد النقد الذاتي وقرار المراجعات تريد العودة إلى التهدئة والتطبيع بعيداً عن الاصطفافات والمواجهات، لكنّ مشكلتها الكبرى تبقى محاولات إبقاء الحلفاء الإقليميين الذين نسّقت معهم في ليبيا والسودان والخليج وإفريقيا والشرق الأوسط إلى جانبها وهي تناقش سياسات إعادة التموضع في هذه الملفّات. سمعنا قبل أسابيع مَن يحدّثنا في أنقرة وطهران، مثلاً، عن رغبة مشتركة في تعزيز التعاون الثنائي والإقليمي وتحويله إلى تحالف استراتيجي. كيف تستعدّ تركيا لاستقبال ردود فعل العواصم العربية والغربية حيال تحرّك انفتاحي على إيران من هذا النوع؟
ما هي حظوظ المعارضة؟
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل عقدين، دخلت تركيا عهداً جديداً، ووضعت نصب أعينها أهدافاً استراتيجية كبيرة على المستويين الداخلي والخارجي. بعد عام 2002 تحوّلت تركيا إلى قوة إقليمية اقتصادية استراتيجية تأخذ مكانها بين مجموعة الدول الـ20 الأغنى والأكثر تقدّماً، وتنافس الكبار على تموضع إقليمي اقتصادي وأمني وسياسي. في نهاية العام 2021 ترانا نتحدّث عن الاستهداف والمحاصرة والتآمر وصدّ الهجمات. هل نواصل اللغة نفسها في العام المقبل أم يظهر طرح جديد ورؤى مغايرة؟
لم تعد أنقرة اليوم، مثلاً، تهتمّ كثيراً بالاستجابة لمطالب ومعايير الاتحاد الأوروبي على طريق العضويّة. هذا كلام القيادات في بروكسل التي ما زالت تنتظر حسم تقدّم الأمور في إنجاز ملفّات الانسجام مع المعايير الأوروبية بدل الحديث عن المضيّ في تجميد التفاوض مع أنقرة.
لم تتحرّك القوّات هذا العام على الرغم من التلويح التركي الدائم بعملية خامسة واللجوء إلى القوّة لقطع الطريق على المشروع الانفصالي في شمال سوريا، كما تردّد أنقرة. لكنّنا نعرف أنّ الرئيس الأميركي لن يهادن وهو يحمي مصالح بلاده في سوريا في مواجهة بقيّة الدول الفاعلة هناك حتّى لو كان الثمن فرض المشروع الفدرالي على السوريين بعدما فعلت الإدارة الأميركية ذلك في العراق. كيف ستتصرّف أنقرة للإجابة على هذا السؤال؟ وكيف سيكون شكل علاقاتها المتوتّرة أصلاً مع واشنطن في ضوء ذلك؟ ومع مَن ستنسّق لمواجهة مثل هذا السيناريو؟
تقول أنقرة وهي تودّع العام 2021 إنّها لن تفرّط بعناصر القوة التي امتلكتها في أكثر من مجال للوصول إلى ما تريده عندما تحتدم المواجهات والتصعيد. عُقِدت قمّة الشراكة التركية الإفريقية قبل أيام من نهاية العام في إسطنبول. وهي لا تهادن في ملفّات استراتيجيّة تتعلّق بمصالحها في الدوائر الثلاث الأولى المحيطة بها. ارتفعت ميزانية مشاريع الصناعات الدفاعية أكثر من 10 أضعاف. وتركيا اليوم هي بين الثلاثة الأوائل في إنتاج واستخدام وتصدير المسيَّرات الحربية في العالم. هذا إلى جانب قرار إنزال العديد من سفنها الجديدة إلى مياه المتوسط والبحر الأسود للبحث عن الطاقة في الأعماق وتثبيت نفوذها في المكانين في رسالة إلى اليونان وقبرص اليونانيّة والاتحاد الأوروبي.
إقرأ أيضاً: توقّعات ستراتفور: استقرار إقليمي ودولي.. ونموّ بطيء
يقول لنا المشهد السياسي والحزبي القائم في تركيا ونحن نودّع العام 2021 إنّ الكثير من استطلاعات الرأي ما زالت تتوقّف عند حظوظ المعارضة في قلب المعادلات عند أول توجّه إلى الصناديق، وإنّ فرص حزب العدالة بالبقاء لن تكون في التعويل على ضعف قوى المعارضة وتشرذمها، بل في إنجاز خطط التموضع الإقليمي الجديد وتنفيذ وعود التجديد في لغة الحزب عمودياً وأفقياً ليكون ذلك مركز الانطلاق في العام 2022.