إنّه زمن الميلاد. ميلاد يسوع. زمن الفرح والخلاص، بحسب قول الملاك للرعاة: “لا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِلشَّعْبِ كُلِّهِ، لأَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ اليَوْمَ مُخَلِّص” (لوقا 2:10). ولكنّه ليس فرحاً هذه السنة للّبنانيين الذين ينتظرون ميلاد لبنان جديد بعد خلاصهم من هذه المنظومة الحاكمة.
ميلاد يسوع هو الفاصل بين “العهد القديم” و”العهد الجديد”.
“العهد القديم”، هو ذاك العهد الذي قطعه الله مع اليهود، شعبه المختار. ولكنّ هؤلاء نكثوا به. أرسل لهم الأنبياء الواحد تلوَ الآخر بهدف إعادتهم إلى “الصراط المستقيم”. لم يسمعوا كلامهم. اضطهدوهم. رجموهم. قتلوهم. “لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ” (غل 4:4). تآمر عليه اليهود وقتلوه. لم يقبلوه لأنّهم كانوا ينتظرون ملكاً أرضيّاً يخلّصهم من العبوديّة السياسية الزمنيّة، ملكاً أرضياً يسلّطهم على أرض “الميعاد”. فإذا بيسوع ملكاً سماويّاً، مخلّصاً من عبودية الخطيئة الأبدية.
ميلاد يسوع هو الفاصل بين “العهد القديم” و”العهد الجديد”
شعب كان ولا يزال متغطرساً، متكبّراً، مكابراً، متآمراً، حتى على الله.
سقط “العهد القديم” وانتهى بعدما نكث به اليهود. أسّس يسوع “عهداً جديداً” مع البشرية جمعاء على أسس جديدة. فاستمراريّة كلّ عهد تتطلّب احترام كلّ الأطراف له. يكفي أن ينكث أحدهم به كي يسقط وينتهي. وهو ما يستلزم عهداً جديداً.
لبنان اليوم بين “عهد قديم” سقط و”عهد جديد” منتظر.
في العام 1920، تعاهد اللبنانيون على صيغة العيش المشترك فيما بينهم من أجل بناء وطن. وتجسّد هذا العهد في الدستور الذي كفل مشاركة جميع مكوّنات المجتمع الدينية والطائفية في الحكم ضمانةً لها وطمأنةً لها إلى مستقبلها. وفي العام 1943 حصّنوه في “الميثاق الوطني” بأن تعاهدوا على ألا ينحازوا “لا للشرق ولا للغرب”. وعلى خلاف ما قال جورج نقاّش من “أنّ سلبيّتيْن لا تصنعان أمّة”، أعتقد أنّ تلك العبارة في روحها تأسيس لحياد لبنان وتأكيد على الانتماء الوطني.
“العهد القديم” بين اللبنانيين كان جيّداً بحدّ ذاته. ولكنّ المشكلة أنّهم نكثوا به في الممارسة. الأخطاء بدأت مع المؤسّسين. وتفاقمت مع خلفائهم. وتحوّلت مع المنظومة الحاكمة اليوم إلى خطايا قضت على الميثاق والدستور والنظام والدولة. وتكاد تقضي على الوطن! كيف؟
في الميثاق، أخطأت “المارونية السياسية”، في عهد كميل شمعون، بالانحياز إلى المشروع الأميركي. ودفع الثمن البلد. فكانت ثورة 1958 “بروفا” لحرب أهليّة.
وفيما بعد تفاقم الخطأ مع “السنّيّة السياسية” بالانحياز إلى الناصرية وإلى الثورة الفلسطينية. فكانت حرب 1975.
واليوم في زمن “الشيعيّة السياسية” تحوّل الخطأ خطيئة. فهذه راحت أبعد من الانحياز. ذهبت إلى ما بعد الشرق. اختارت أن تكون تابعة لإيران المعادية للشرق وللغرب. وخطيئتها الكبرى في أنّها لم تكتفِ بالتبعيّة السياسية، إنّما قامت أساساً على تبعيّة عسكرية. واستمرّت هذه التبعيّة بعد الحرب، بتغطية من النظام السوري، مخالفةً للميثاق وللنظام وللدستور وللقوانين ولمنطق الدولة ومؤسّساتها. وفي زمن الانهيار اليوم، تبعيّتها هذه تقف حجر عثرة كبير بوجه إمكانية خروج لبنان من زواله المحتّم.
وأمّا الصيغة والنظام اللذان قام عليهما “العهد القديم” بين المؤسّسين، فقد حوّلهما أبناؤهم وأحفادهم إلى مسخ قضى على الدولة والمؤسّسات.
بدل أن تكون صيغة المشاركة في السلطة ضمانة للطوائف، حوّلها السياسيون إلى مطيّة ليتحكّموا بالطوائف، ويتحاصصوا السلطة فيما بينهم، ويسخّروا الإدارة العامّة لخدمة مصالحهم الشخصية والحزبية.
وبدل أن تكون الديموقراطية التوافقية تشاركيّة في القرارات المصيرية بين كلّ المكوّنات المجتمعية، حوّلوها إلى تعطيلية في الحياة السياسية اليومية.
بعد سقوط “العهد القديم” وتدمير لبنان، يتطلّع اللبنانيون اليوم إلى ولادة لبنان جديد يقوم على “عهد جديد”
وبدل أن تكون الحياة الحزبية، التي سمحت بها ديموقراطية النظام، مدرسة تنشِّئ على الوطنية، جعلوها تجمّعات لتنمية الروح الطائفية والمذهبية، وغرفاً سوداء لغسل دماغ المحازبين وزرع الخوف من الآخر المختلف في الدين والمذهب. وبدل أن تكون مدرسة في الوطنية وفي الاندماج الوطني حوّلوها إلى عشائر طائفية منغلقة على ذاتها. وبدل أن تكون مساحة للتربية على الديموقراطية يعتاد فيها الحزبيّ على تداول السلطة، حوّلوها إلى ديكتاتورية الرئيس الحاكم مدى الحياة. ومن بعده للوريث.
بعد سقوط “العهد القديم” وتدمير لبنان، يتطلّع اللبنانيون اليوم إلى ولادة لبنان جديد يقوم على “عهد جديد”.
“عهد جديد” لا طائفية سياسية فيه تطبيقاً للمادة 95 من الدستور. عهد يقوم على أساس الآية: “أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ” (مر 12:17). يحترم كلّ الأديان والطوائف في إيمانها ومعتقداتها، ويعامل أبناءها على أساس المواطنة. عهد لا فضل فيه لمواطن على آخر إلا بالانتماء إلى الوطن وكفاءته والتزامه بالقوانين. “عهد جديد” في دولة ينتخب فيها المواطن الرئيس والنائب على أساس المشروع لا على أساس الانتماء الطائفي. ويتمّ اختيار الوزير فيها والموظّف على أساس الكفاءة. ويُرفّع الضابط والموظّف استناداً إلى عمل بطولي أو أداء وظيفي…
“العهد الجديد”، الذي يتطلّع إليه اللبنانيون، يقوم على أساس حصريّة السلاح بيد القوى الأمنيّة الشرعيّة. وأمر استعماله يكون بقرار من السلطات الشرعية اللبنانية لحماية لبنان واللبنانيين، ولحفظ القانون وردع كلّ مخالف له. “عهد جديد” يقوم على أساس احتكار الدولة قرارَيْ السلم والحرب اللذين تتّخذهما بحسب المصلحة الوطنية العليا.
ويتطلّع اللبنانيون إلى “عهد جديد” يقوم على أساس الحياد عن صراعات الشرق والغرب ومحاورها. وحده الحياد قادر على حفظ استقرار لبنان في هذا الشرق المتفجّر. وهو الذي يسمح فعليّاً للبنان بلعب دور الجسر بين الشرق والغرب. وهو الذي يمكن أن يجعل من لبنان مساحة حوار تحتاج إليها المنطقة، بخاصة في هذا الزمن، زمن صراعات الأديان والطوائف والمذاهب في ظلّ تنامي التطرّف الديني، وزمن صراعات الحضارات والقوميّات.
يتطلّعون إلى “عهد جديد” قادر على إعادة بناء الاقتصاد الليبرالي الحرّ والنظام النقدي والماليّ المتين والقطاع المصرفي الموثوق بعيداً عن التحالف بين السياسة ورأس المال. اقتصاد يشجّع على الاستثمار، ونظام مصرفيّ يكون في خدمته ولا يستثمره لزيادة الأرباح فقط، وأحياناً بطريقة غير مشروعة.
إقرأ أيضاً: بين “هالوين” والبربارة: العولمة والهيمنة الأميركيّة
هذا “العهد الجديد” للبنان الذي ينتظره اللبنانيون لا يمكن أن يُبرمه أفراد الطبقة السياسية الحالية وأحزابها التي دمّرت “العهد القديم”، ولا يمكن أن يكون تحت تهديد سلاح حزب الله المتسلّط. وهو ينتظر الظروف الإقليمية والدولية. ولكنّها غير مؤاتية اليوم. فالمنطقة في انتظار ولادة نظام إقليمي جديد يُنهي الحروب فيها. والعالم في انتظار نظام عالمي جديد يحدّد مسار الصراعات الدولية المقبلة.
ميلاد لبنان الجديد إذاً مؤجّل. إلى متى؟! علينا الانتظار. ربّما طويلاً…
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة