يندرج ما تقوم به إسرائيل في هضبة الجولان السوريّة في سياق طبيعي لسياسة متّبعة منذ العام 1967، تاريخ وقوع الهضبة تحت الاحتلال. حصل الاحتلال في ظروف ما زالت غامضة في وقت كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع.
بعد عامين من اعتراف الإدارة الأميركية السابقة بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وهو اعتراف لم تتراجع عنه الإدارة الحاليّة، باشرت الحكومة الإسرائيلية، قبل أيّام، تنفيذ خطة جديدة تستهدف زيادة عدد المستوطنين في الجولان من جهة، وتحسين البنية التحتيّة في الهضبة من جهة أخرى.
يندرج ما تقوم به إسرائيل في هضبة الجولان السوريّة في سياق طبيعي لسياسة متّبعة منذ العام 1967، تاريخ وقوع الهضبة تحت الاحتلال
يعطي تصرّف النظام السوري، الذي أسّسه الأسد الأب في العام 1970، فكرة عن وجود عالمين عربيّين على الأقلّ. عالم الدول التي تتطلّع إلى المستقبل، وعالم تلك الدول التي تعتقد أنّ المتاجرة بقضيّة فلسطين وتقديم كلّ التنازلات المطلوبة إسرائيليّاً يوفّران حماية للنظام فيها. ليست سوريا في ظلّ النظام القائم فيها منذ ما يزيد على نصف قرن سوى عضو بارز بجمعية المتاجرين بفلسطين وقضيّتها.
يعتقد النظام بكلّ بساطة أنّ مثل هذه التجارة، التي تحلّ مكان العمل الجدّيّ من أجل استرجاع الهضبة المحتلّة، بمنزلة ضمانة له.
يؤكّد ذلك الموقف الإسرائيلي الداعم للنظام منذ العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبيّة في سوريا. لم تقدم إسرائيل على أيّ خطوة من أيّ نوع تهدّد النظام. على العكس من ذلك، لعبت دوراً في دعمه، وتغاضت عن التدخّل الإيراني، ثمّ الروسي، لإنقاذه. كلّ ما فعلته إسرائيل هو ضرب أهداف إيرانيّة وشحنات أسلحة في مواقع معيّنة للتنبيه إلى أنّ ثمّة حدوداً لا تسمح لأحد بتجاوزها.
هل حاول النظام السوري في يوم من الأيّام استعادة الجولان أم كان الجولان دائماً ضمانة لبقائه؟ ما الذي فعله النظام السوري طوال ما يزيد على نصف قرن عندما احتلّت إسرائيل الجولان قبل 54 عاماً؟
بقيت هضبة الجولان في كلّ وقت ضمانة للنظام. فبعد ثلاث سنوات من احتلال إسرائيل للجولان، انتقل حافظ الأسد إلى موقع المسيطر كلّيّاً على سوريا ابتداء من السادس عشر من تشرين الثاني 1970. بقدرة قادر، لم يلقَ الأسد الأب أيّ مقاومة في الانقلاب الذي نفّذه على خصومه. على العكس من ذلك، كانت هناك إحاطة دولية لـ”الحركة التصحيحيّة” التي قام بها. كذلك كان هناك تعاطف عربي مع ما قام به من منطلق أنّه كان لا بدّ من التخلّص من “البعث المغامر” ذي الميول اليسارية الذي كان يتزعّمه في سوريا ضابط علويّ آخر اسمه صلاح جديد.
كان أفضل مَن عبّر عن طبيعة العلاقة الجديدة – القديمة بين إسرائيل والنظام السوري، بعد خلافة بشّار الأسد لوالده، شخصاً اسمه رامي مخلوف، ابن خال بشّار الأسد
منذ أصبح حافظ الأسد الحاكم المطلق لسوريا، خصوصاً بعدما أصبح أوّل رئيس علويّ للجمهورية في شباط 1971، كان الرهان الدائم للنظام على حال اللاحرب واللاسلم التي يرمز إليها وضع الجولان. وجد النظام السوري في اتفاق فكّ الاشتباك مع إسرائيل مطلع العام 1974 بديلاً من أيّ سعي فعليّ للبحث جدّيّاً في أيّ انسحاب إسرائيلي من الجولان. أكثر من ذلك، كان الهدوء الذي تنعم به جبهة الجولان مدخلاً للوجود العسكري السوري في لبنان الذي باركته إسرائيل بعد وضعها خطوطاً حمر له في 1976.
منذ توقيع اتفاق فكّ الاشتباك، أصرّ النظام السوري على بقاء مدينة القنيطرة، التي انسحب منها الإسرائيليون، مدمّرة. كانت حجّته أنّ تدمير المدينة شاهد على وحشيّة إسرائيل. هل من حاجة إلى ما حلّ بالقنيطرة لمعرفة ما هي إسرائيل، بدل إعادة بناء المدينة وإعادة أهلها إليها؟
بالنسبة إلى النظام السوري، كان الجولان موضوع تجارة رابحة استخدم فيها لغة خشبيّة من نوع الإصرار على انسحاب إسرائيلي إلى حدود الرابع من حزيران 1967، علماً أنّ هذه الحدود لم تعد عند ضفاف بحيرة طبريا التي انخفض منسوب المياه فيها.
في الواقع، لم يُرِد حافظ الأسد يوماً استعادة الجولان، بل كان كلّ همّه محصوراً بالمتاجرة به واستخدامه كخطّ دائم لوقف النار مع إسرائيل. منذ توقيع اتفاق فكّ الاشتباك، الذي أمكن التوصّل إليه مطلع العام 1974 بفضل هنري كيسينجر، وزير الخارجية الأميركي وقتذاك، لم تعكّر رصاصة واحدة الجوّ في الجولان. كان هناك اتفاق سوري – إسرائيلي على إبقاء جبهة جنوب لبنان مفتوحة لتبادل الرسائل بين الجانبين، إن في أيّام السيطرة الفلسطينية على الجنوب اللبناني أو بعد ذلك عندما أصبح الجنوب في عهدة إيران، أي في عهدة “حزب الله”، الذي بقي محافظاً على المهمّة المكلّف بها حتّى صيف العام 2006 عندما افتعل، بتوجيهات إيرانيّة، حرباً مع إسرائيل. أجبرت تلك الحرب إسرائيل على تغيير قوانين اللعبة المتّفق عليها، وذلك عبر قرار مجلس الأمن الرقم 1701 الذي سمح للجيش اللبناني بالعودة إلى جنوب لبنان للمرّة الأولى منذ العام 1975.
كان أفضل مَن عبّر عن طبيعة العلاقة الجديدة – القديمة بين إسرائيل والنظام السوري، بعد خلافة بشّار الأسد لوالده، شخصاً اسمه رامي مخلوف، ابن خال بشّار الأسد.
في وقت كانت الثورة الشعبية في سوريا في بدايتها، وقبل أن يوضع رامي مخلوف على الرفّ لأسباب مرتبطة بخلافات عائلية على الثروة، ربط في حديث مع الصحافي الأميركي، اللبناني الأصل، أنتوني شديد، الذي كان يعمل لصحيفة “نيويورك تايمز”، بين بقاء النظام السوري وحال الهدوء السائدة مع إسرائيل. كشف بكلّ صراحة عن تلك المعادلة التي تحكّمت بالعلاقة بين النظام من جهة، والضمانة الإسرائيلية من جهة أخرى. قال ما حرفيّته في عدد “نيويورك تايمز” الصادر في العاشر من أيّار 2011: “إذا لم يكن هناك استقرار هنا، لا يمكن بأيّ شكل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل”.
إقرأ أيضاً: إيران تستغبي العالم
لم تتدخّل إسرائيل في سوريا على نحو مكشوف، علماً أنّه كان في استطاعتها، منذ البداية، قلب المعادلة الداخلية بسبب قربها من الجنوب السوري، ومن درعا تحديداً التي انطلقت منها الثورة السورية.
ما تفعله إسرائيل حالياً هو قبض ثمن إبقاء بشّار الأسد في دمشق التي هي على مرمى حجر من الجولان. لم يتغيّر شيء في العلاقة بين النظام السوري وإسرائيل التي تقبض ثمن محافظتها على نظام مرفوض من شعبه وتحميه روسيا وإيران. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه عاجلاً أم آجلاً: هل هذه الضمانة الإسرائيلية للنظام السوري ضمانة لمدى الحياة؟