واشنطن قلقة: 10 مليارات دولار سائبة في لبنان

مدة القراءة 6 د

لم تعد مصارف لبنان طفلاً مدلّلاً يحظى بإطراء وزارة الخزانة الأميركيّة على تعاونه في كلّ مناسبة. بل ثمّة تغيير كبير بدأت تظهر ملامح في نظرة الإدارة الأميركيّة إلى النظام المالي اللبناني بأسره. وواشنطن قلقة من 10 مليارات دولارات “سائبة” في لبنان.

فكيف صارت “سائبة”؟

بدايةً: مَن يقرأ المحضر الذي نشرته جمعيّة المصارف لاجتماعها الأخير مع وكيل الخزانة الأميركيّة للإرهاب والاستخبارات الماليّة بريان نيلسون، لن يعثر إلّا على بعض الرسائل التي اعتاد الرأي العام في لبنان سماعها من المسؤولين الأميركيين، من قبيل دعوة المصارف اللبنانيّة إلى منع حزب الله من إمكانيّة الوصول إلى النظام المالي اللبناني، أو دعوتها إلى المشاركة في مكافحة الفساد عبر التدقيق في عمليّات الشخصيّات البارزة سياسيّاً.

معلومات “أساس”: ما قاله نيلسون حمل تصعيداً غير مسبوق في الضغوط على المصارف اللبنانيّة

لكنّ هذا المحضر لا يعكس حقيقة ما جرى في ذلك الاجتماع فعلاً، وخصوصاً من جهة تصعيد الإدارة الأميركيّة لنبرتها في وجه المصارف اللبنانيّة.

فمعلومات “أساس” أنّ ما قاله نيلسون حمل تصعيداً غير مسبوق في الضغوط على المصارف اللبنانيّة. إذ تشير مصادر شاركت في ذلك الاجتماع إلى أنّ رؤساء مجالس إدارات المصارف اللبنانيّة سمعوا من نيلسون أقسى ما يمكن سماعه من مسؤول بهذا المستوى، وصولاً إلى حدّ اتّهام المصارف اللبنانيّة بالتواطؤ مع السياسيين لإخفاء ثرواتهم داخل النظام المالي، على شكل ودائع واستثمارات ومساهمات، وتسهيل عمليّات تهريب الأموال طوال الفترة السابقة.

كما لفت نيلسون إلى ريبة الولايات المتحدة الأميركيّة من تراجع عدد البلاغات التي تقدّمها المصارف عن العمليات الماليّة المشكوك في أمرها، وهو ما فسّره انخفاضاً في مستوى التزامها بمعايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

وفي الخلاصة، اعتبر المسؤول الأميركي أنّ مصارف لبنان لم تبذل الجهد المطلوب منها لتحييد النظام المالي عن لوثة الفساد، ولم تقُم بواجباتها في ما يخصّ هذه المسألة، وهو ما أدّى إلى إصابة المصارف بهذه اللوثة وإتاحة خدماتها للمسؤولين المستفيدين من أنشطة الإثراء غير المشروع. أمّا أهمّ ما في الموضوع، فهي الإشارات المتكرّرة التي شهدها الاجتماع إلى العقوبات الأميركيّة السابقة التي طالت مصارف لبنانيّة وشخصيّات عامّة، في تلميح إلى نوعيّة الإجراءات التي يمكن أن تصل إليها واشنطن لفرض التزام النظام المالي اللبناني بقواعد “مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”.

لم تعد مصارف لبنان طفلاً مدلّلاً يحظى بإطراء وزارة الخزانة الأميركيّة على تعاونه في كلّ مناسبة. بل ثمّة تغيير كبير بدأت تظهر ملامح في نظرة الإدارة الأميركيّة إلى النظام المالي اللبناني بأسره

                                                                

ما الذي يقلق واشنطن؟

ما يقلق واشنطن اليوم بات أبعد من مسائل الفساد وحزب الله، وهي مسائل لطالما تمكّنت من إدارة توازناتها بحنكة مع جمعيّة المصارف وحاكميّة مصرف لبنان طوال السنوات الماضية. لفهم أبعاد التصعيد الأميركي الأخير في وجه المصارف اللبنانية، لا بدّ من العودة إلى محاضر اجتماعات نائب مساعد وزير الخزانة الأميركي إريك ماير قبل شهرين مع حاكم مصرف لبنان وجمعيّة المصارف. يومها دخل النقاش في تفاصيل المسائل التقنيّة التي ترغب واشنطن بمعالجتها في النظام المصرفي اللبناني، بخلاف اجتماع نيلسون خلال الأسبوع الماضي مع جمعيّة المصارف الذي اكتفى بالعناوين الفضفاضة.

في اجتماعات إريك ماير كان من الواضح أنّ الأميركيين يتوجّسون من تحوّل لبنان تدريجيّاً إلى نظام الاقتصاد النقدي Cash Economy، في ظلّ احتفاظه بالقدرة على الولوج إلى النظام المالي العالمي عبر المصارف التجاريّة. في اقتصاد من هذا النوع، تتوازى كلّ عمليّة تحويل واردة إلى المصارف اللبنانيّة مع عمليّة سحب نقدي بشكل تلقائي، للاستفادة من الدولارات الطازجة نقداً، بدل الاستفادة منها عبر أنظمة الدفع الأخرى كالشيكات والتحويلات الداخليّة. وتسبق كلّ عمليّة تحويل صادرة من لبنان عمليّة إيداع نقدي، لأنّ التحويلات الصادرة باتت مستحيلة من دون توفير قيمة التحويل بالدولار الطازج.

بمعنى آخر، ومنذ حصول الانهيار المالي وفقدان المصارف لقدرتها على تقديم معظم الخدمات المصرفيّة الأخرى، تحوّلت الحسابات المصرفيّة التجاريّة إلى حسابات وسيطة: تتلقّى الدولار النقدي لتحويله إلى الخارج، أو تتلقّى التحويلات من الخارج لسحبها نقداً. ولا تمثّل بيئة مصرفيّة من هذا النوع سوى جنّة ماليّة لكلّ أنواع عمليّات تبييض الأموال، أو إخفاء مصدر الأموال التي يتمّ ضخّها إلى النظام المالي العالمي. وبذلك تحوّلت المصارف اللبنانيّة، وما تملكه من اتصال مالي مفتوح بالمصارف المراسلة الأجنبيّة، إلى ثغرة تخشى الجهات الرقابيّة الأميركيّة أثرها من ناحية تسلّل الأموال “غير النظيفة” إلى النظام المالي العالمي.

إقرأ أيضاً: ما علاقة “محور الممانعة” بأزمة الدولارات القديمة؟

ولهذا السبب بالتحديد، تركّزت لقاءات ماير مع مصرف لبنان وجمعيّة المصارف على التحذير من تداعيات تحوّل لبنان تدريجيّاً إلى الاقتصاد النقدي، وما يمكن أن تتركه هذه المسألة من أثر على علاقة المصارف اللبنانيّة بالمصارف الأجنبيّة المراسلة، وبالأنظمة المصرفيّة العالميّة بشكل عام. ومنذ ذلك الوقت، دخلت جمعيّة المصارف في نقاشات تقنيّة معمّقة مع الجهات الرقابيّة داخل مصرف لبنان، لإيجاد الحلول العمليّة التي يمكن أن تعالج هواجس الإدارة الأميركيّة. وفي سياق هذه المعالجات، جاء الأسبوع الماضي اجتماع نيلسون مع جمعيّة المصارف، في محاولة لتصعيد الضغط على المصارف اللبنانيّة، ودفعها نحو المزيد من الامتثال لمعايير مراقبة تبييض الأموال التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركيّة.

في خلاصة الأمر، ومهما حسّنت جمعيّة المصارف من أدوات الرقابة على عمليّاتها النقديّة، ثمّة 10 مليارات دولار سائبة في لبنان بنظر الإدارة الأميركيّة، ما دامت موجودة اليوم في الاقتصاد النقدي وخارج تداولات النظام المالي الرسمي. وستظلّ هذه المليارات مصدر قلق بتفلّتها من أيّ إطار رقابي ماليّ رسمي، إلى أن يستعيد النظام المصرفي انتظامه وقدرته على استيعاب تداولات السوق التجاريّة. وعلاج هذه المسألة مربوط بدوره بالخطّة الماليّة التي يُفترض أن توزّع الخسائر وتعالج فجوات الميزانيّات المصرفيّة.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…