ماكرون في الخليج: أبعد من صفقة “رافال”

مدة القراءة 7 د

منذ أسبوعين قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارات مهمّة لثلاث دول خليجية: المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة وقطر. وكما أصبح معروفاً كان للضيف الفرنسي هدفان أساسيّان من الزيارات:

1) توقيع اتفاقية بيع طائرات رافال للإمارات تساعده في حملته الانتخابية الرئاسية على الفوز بولاية ثانية.

2) حثّ وليّ العهد السعودي على تغيير موقفه من الملف اللبناني.

وقد حقّق ماكرون الهدف الأوّل. أمّا بالنسبة إلى الثاني فقد حقّق الأمير بن سلمان ما أراده، إذ تبنّى الضيف الفرنسي المقاربة السعودية للملفّ اللبناني، ووافق عليها في بيان مشترك.

زيارات ماكرون هي محطّة في مسار فرنسي استراتيجي. أهدافه أبعد من صفقة “رافال” ومساعدة لبنان. تحدّياته كثيرة وكبيرة مع انسحاب الحليف الأميركي من المنطقة

ماكرون في زياراته هذه يكمل سياسة أسلافه. فالعلاقات بين فرنسا ودول مجلس التعاون الخليجي قديمة:

اقتصادياً، تخطّى حجم التبادل التجاري 20 مليار دولار.

في مجال الطاقة، فإنّ نفط الخليج وغازه مهمان جدّاً لفرنسا، كما لكلّ دول الاتحاد الأوروبي.

عسكرياً، بين الإمارات وفرنسا شراكة استراتيجية، آخر مظاهرها صفقة الـ80 طائرة رافال. منذ العام 2009، تدير باريس قاعدة عسكرية في ميناء زايد تضمّ 700 عنصر من الجيوش الفرنسية الثلاثة. عسكرياً أيضاً، تمثّل دول الخليج، التي تأتي في المرتبة الأولى بين الدول المستورِدة للأسلحة، سوقاً مهمّاً لشراء أسلحة فرنسا ذات المرتبة الثالثة بين الدول المصدِّرة للسلاح.

لا تنحصر المصالح الفرنسية بدول الخليج فقط، إنّما تتعدّاها إلى كلّ دول الشرق الأوسط. من هنا الاهتمام الاستثنائي بالوضع اللبناني، ومشاركة ماكرون في قمّة بغداد في آب 2021، ودور فرنسا الأساسيّ في المفاوضات النووية مع إيران وفي الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وغيرهما من القضايا.

يسعى ماكرون إلى تطوير هذه العلاقات في ظلّ عوامل جيوسياسية تعتبرها فرنسا ملائمة لتوسيع نفوذها في المنطقة. ما هي؟

1- إعادة تشكيل جيوسياسة المنطقة. فالحروب في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان والسودان، ستؤدّي حتماً إلى تبدّلات في جيوسياسة تلك الدول، التي بدأ بعضها بالتغيّر فعليّاً. وغالباً ما تجد القوى العظمى طريقاً لزيادة نفوذها في مثل هذه الأوضاع.

2- “الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط” من أجل تركيز أكبر على مواجهة الصين القوّة العالميّة الصاعدة، سوف يخلق فراغاً في المنطقة، الأمر الذي يفسح المجال أمام فرنسا لتعود إلى مناطق نفوذها التقليدية (في لبنان)، وتطوير دورها في العراق والخليج العربي. من هنا إصرار ماكرون على إخراج لبنان من الانهيار، واهتمامه بالعراق.

3- أبعد من جغرافيا الشرق الأوسط وصراعاته، يتّجه العالم نحو مشهد متعدّد الأقطاب مع بدء تراجع الولايات المتحدة الأميركية كقوّة عظمى أولى في العالم، وهو ما يتيح لفرنسا، كما يفرض عليها، العودة إلى لعب دور أكبر في الشرق الأوسط.

للتذكير، فإنّه خلال الحرب الباردة تراجع دور فرنسا (كما بريطانيا) لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية التي قادت المعسكر الغربي بوجه الاتحاد السوفياتي، لسببين:

لا تنحصر المصالح الفرنسية بدول الخليج فقط، إنّما تتعدّاها إلى كلّ دول الشرق الأوسط

1) خروج فرنسا منهكة من الحرب العالمية الثانية.

2) انشغالها، منذ خمسينيات القرن الماضي، بتركيز أسس الاتحاد الأوروبي وتوسيعه باعتباره تجمّعاً اقتصادياً إقليمياً في البداية، ثمّ كياناً سياسياً.

4- ربّما تعتبر باريس أنّ انهماك لندن، منافستها التقليدية في الشرق الأوسط، بالـ Brexit وتداعياته السلبية اقتصادياً، يشكّل فرصة لها لتوسيع نفوذها في منطقة كان لبريطانيا النفوذ الأكبر فيها قبل الولايات المتحدة الأميركية، وتعرفها “حلّاً ونسباً”. وما يدعم الموقف الفرنسي هو تفوّق الاتحاد الأوروبي لاعباً سياسياً واقتصادياً وتجارياً على بريطانيا، علماً أنّ لندن بدأت في شهر تشرين الثاني الفائت مفاوضات مع مجلس التعاون الخليجي من أجل إبرام اتفاقية للتجارة الحرّة. وتتوقّع أن تصبح جاهزة للتطبيق خلال سنة.

في مقابل هذه العوامل الجيوسياسية التي يمكن أن تكون ملائمة لدور فرنسي أكبر في المنطقة، هناك متغيّرات جيوسياسية تشكّل تحدّيات كبيرة له. ما هي؟

1- بروز ثلاث قوى إقليمية غير عربية تتصارع على الدول العربية: إيران وإسرائيل وتركيا. لا يمكن لهذه الدول منافسة الدور الفرنسي في العالم، لكن في الشرق الأوسط يمكنها الوقوف بوجهه وعرقلته. وهذا ما برز بشكل واضح منذ سنة حتى اليوم في لبنان، حيث تعرقل إيران، من خلال حزب الله، المبادرات الفرنسية لإنقاذ الوضع.

2- عودة روسيا إلى المنطقة من البوّابة السورية، في حين كانت فرنسا تسعى إلى نفوذ فيها منذ وصول بشار إلى الحكم. فالرئيس الراحل جاك شيراك، الزعيم الغربي الوحيد الذي شارك في جنازة حافظ الأسد، مدّ اليد لبشار. بعد اغتيال الحريري لم يدُم التضييق الفرنسي على سوريا طويلاً. ففي العام 2008 دُعِي بشار الأسد إلى القمّة الأورو – متوسطية، وشارك في احتفالات 14 تموز الشهيرة، وجلس إلى جانب نيكولا ساركوزي على المنصّة الرسمية في جادّة الشانزيليزيه، وهو ما أثار استياء الفرنسيين وغالبيّة اللبنانيين.

بعد اندلاع الثورة السورية رأت فرنسا أنّ الفرصة سانحة لتحقيق هدفها. استضافت باريس العديد من قيادات المعارضة السورية ونشطاء الثورة ودعمتهم. لكنّ الموقف الأميركي المعارض لإسقاط نظام بشار، ودخول أطراف إقليمية على خطّ الصراع، عقّدا المهمّة على الفرنسيين. وبعد دخول “الدبّ الروسي” على خطّ الصراع المباشر، انتهى الحلم الفرنسي بالعودة إلى سوريا.

3- طريق الحرير الصينية أو “مبادرة الحزام والطريق”، التي أُعلنت في العام 2013، هي عامل جيوسياسي استراتيجي يشكّل خطراً كبيراً ليس فقط على مصالح فرنسا في الشرق الأوسط، إنّما على مصالح الاتحاد الأوروبي (كما على الولايات المتحدة الأميركية). لذلك ستكون مواجهة هذا المشروع على مستوى الاتحاد. وقد أعلنت رئيسة المفوّضية الأوروبية في بداية الشهر الحالي عن تخصيص 300 مليار يورو لمواجهة المشروع الصيني في العالم. وسيكون الشرق الأوسط جزءاً أساسيّاً في هذه المواجهة لأنّه يحتلّ موقعاً جيوستراتيجيّاً للطرفين بمعابره البحرية (مضيقيْ هرمز وباب المندب وقناة السويس)، وباحتياطاته من النفط والغاز، وبكونه شريكاً تجارياً. وما يقلق فرنسا والاتحاد الأوروبي هو حجم الاستثمارات الصينية في المنطقة (وفي إفريقيا أيضاً). فالصين شريك كبير للسعودية والإمارات في التحوّل نحو الطاقات المتجدّدة، ومستقبلاً في مشروع “نيوم” السعودي الذي يمثّل درّة تاج مشاريع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ولها استثمارات عديدة في مصر، أبرزها في مشروع “القاهرة الجديدة”. ووقّعت مع إسرائيل في 2012 اتّفاقية لبناء سكّة حديد تصل خليج العقبة بمرفأيْ أشدود وحيفا. وهي تنتظر رفع العقوبات عن إيران لتضع موضع التنفيذ الشراكة الاستراتيجية معها التي وُقِّعت في آذار 2021.

إقرأ أيضاً: ماكرون والحزب: “سكيزوفرينيا” سياسية

زيارات ماكرون هي محطّة في مسار فرنسي استراتيجي. أهدافه أبعد من صفقة “رافال” ومساعدة لبنان. تحدّياته كثيرة وكبيرة مع انسحاب الحليف الأميركي من المنطقة وهجوم “الدبّ الروسي” و”المارد الصيني” عليها. لا يزال الصراع في بداياته. لا يمكن توقّع نتائجه اليوم. لكنّ الأكيد أنّ حروب المنطقة وصراعاتها لا تزال هي أيضاً في بداياتها.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…