جاء الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى لبنان في زيارة أقرب إلى تفقّد مريض لا أكثر. اكتشف أنّه لا يستطيع أكثر من العمل من أجل دعم المؤسسة العسكريّة وقوى الأمن، لعلّ وعسى أن يبقى هناك ما يمكن إنقاذه. اكتشف أنّ عليه توفير مساعدات إنسانيّة للّبنانيين الذين يزدادون فقراً وتعتيراً يوماً بعد يوم. ما لن يقوله الأمين العام للأمم المتحدة أنّ لبنان في حاجة إلى إعادة تركيب من جهة، وصيغة جديدة من جهة أخرى، في حال كان مطلوباً عودته إلى الخريطة السياسية للشرق الأوسط يوماً. هناك محاولة مستمرّة لقتل الطائف، منذ اغتيال رفيق الحريري إلى اليوم. يحاول الثنائي ميشال عون – جبران باسيل و”حزب الله” إعلان وفاته، عن طريق إلغاء الحلقة الأهمّ فيه، وهي دور مجلس الوزراء الذي بات مسرحاً للتجاذبات في حال تمكّن من الاجتماع.
هل بين السياسيين اللبنانيين من يجرؤ على الاعتراف بهذا الواقع والانطلاق منه في مواجهة تحدّيات المستقبل؟
ليست زيارة غوتيريش للبنان سوى زيارة رفع عتب لن تقدّم ولن تؤخّر في غياب تغيير في التوازنات الإقليميّة يجعل إيران تأخذ حجمها الطبيعي في المنطقة وتوقف الاستثمار في مشروعها التوسّعي
صار لبنان قضيّة إنسانيّة فحسب. يبدو مطلوباً توفير مسكّنات لا أكثر من أجل الحؤول دون الانهيار الكبير الذي يعني بين ما يعنيه تكريس لبنان دولة فاشلة لا أمل بأيّ قيامة لها في المدى المنظور.
لا شكّ أنّ الهدف من زيارة الأمين العام للأمم المتحدة هدف نبيل… لكنّ الدخول في صلب الأزمة التي يعاني منها لبنان يظلّ محظوراً عليه، لا لشيء إلّا لأنّه ليس في البلد مرجعيّة سياسيّة مستعدّة لتسمية الأشياء بأسمائها.
بكلام أوضح، لا يوجد مسؤول لبناني يستطيع القول لغوتيريش إنّ لبنان واقع تحت الاحتلال الإيراني، وإنّه لا حياة سياسية طبيعية في البلد ما دام سلاح “حزب الله” يتحكّم به ويحكمه. من هذا المنطلق، خلافاً لِما قاله الأمين العام قبل وصوله إلى بيروت، لن تصنع الانتخابات النيابيّة المقرّرة السنة المقبلة أيّ فارق. كيف يمكن لمثل هذه الانتخابات صنع فارق ما دام القانون الانتخابي المعتمد وُضِع على مقاس “حزب الله”. يسمح هذا القانون بأن تكون لـ”حزب الله”، أي لإيران، أكثرية في مجلس النوّاب. يعني ذلك بطبيعة الحال أن لا هدف من الانتخابات المقبلة سوى تبييض سلاح “حزب الله”، أي تحويل هذا السلاح إلى نفوذ سياسي يمتلك شرعيّة دستوريّة. مطلوب إيجاد “شرعيّة” للسلاح بحجّة أنّ “حزب الله” يمثّل قسماً من اللبنانيين. ألم يذهب رئيس الجمهوريّة ميشال عون في المقابلة التي أجرتها معه قناة “الجزيرة” القطرية قبل بضعة أسابيع إلى القول إنّ الحزب “يمثّل ثلث اللبنانيين”؟ أيّ مستقبل لبلد يعترف رئيس الجمهورية فيه أنّ ثلث شعبه لديه ولاء مطلق لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران؟
الأكيد أنّ الأمين العام للأمم المتحدة يعرف تماماً حدود ما يستطيع عمله. لكنّه أصرّ، على الرغم من ذلك، على زيارة لبنان… في نهاية المطاف، كان على قوات الأمم المتحدة “المعزّزة” الموجودة في جنوب لبنان منذ العام 2006 إيجاد صيغة تعايش مع “حزب الله” كي لا تخرج من المنطقة. يدرك غوتيريش ذلك جيّداً، ويدرك خصوصاً أنّ الدعوة إلى تنفيذ القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة شيء، فيما تحويل القرار إلى حقيقة على الأرض شيء آخر.
ليست زيارة غوتيريش للبنان سوى زيارة رفع عتب لن تقدّم ولن تؤخّر في غياب تغيير في التوازنات الإقليميّة يجعل إيران تأخذ حجمها الطبيعي في المنطقة وتوقف الاستثمار في مشروعها التوسّعي. ليس لبنان، بصفة كونه مجرّد “ساحة” لإيران، سوى حلقة مهمّة، بل أساسيّة، في هذا المشروع الممتدّ إلى اليمن.
لم يكن ممكناً سوى الترحيب بالأمين العام للأمم المتحدة، وإرفاق هذا الترحيب بأطيب التمنّيات بإقامة سعيدة. ستبقى تمنّيات غوتيريش، الذي جاء من أجل دعم الشعب اللبناني، تمنّيات في انتظار يوم يستطيع فيه رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة المطالبة بتنفيذ كلّ حرف في القرارات الأممية 1559 و1680 و1701.
ما هو مؤسف أنّ مثل هذا اليوم لا يزال بعيداً في ظلّ رئيس للجمهوريّة يفتخر بوجود سلاح “حزب الله” الذي أوصله إلى قصر بعبدا.
ليس صدفة اعتراض ميشال عون منذ اللحظة الأولى على إجراء تحقيق دولي في تفجير مرفأ بيروت. ليس صدفة رفضه أخذ العلم بمعنى انهيار النظام المصرفي وانعكاس ذلك على مستقبل لبنان واللبنانيين. أكثر من ذلك، هناك رئيس للجمهوريّة يعتبر أنّ الوضع في لبنان طبيعي، وأنّ الحكومة تجتمع بشكل طبيعي، علماً أنّها لا تجتمع، وأنّ القضاء اللبناني سلطة مستقلّة لا دخل لإيران فيه… وأنّ نيترات الأمونيوم التي خُزِّنت في أحد عنابر مرفأ بيروت هبطت من السماء. هبطت تماماً مثلما هبط التفجير الذي يعبّر عن الكارثة التي قد يصعب على لبنان الشفاء من نتائجها يوماً.
في ظلّ الفراغ السياسي الذي ظهر خلال زيارة غوتيريش وعلى هامشها، من خلال اللقاء العاصف بين رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، لن يكون لبنان في المرحلة المقبلة أمام تحدّي الانتخابات النيابيّة وانتخاب رئيس للجمهوريّة خلفاً لميشال عون. لبنان يعاني بكلّ بساطة من أزمة بنيويّة بعدما تكفّل سياسيّوه بالقضاء على اتفاق الطائف بدل العمل على تطويره خطوة خطوة.
إقرأ أيضاً: الحزب وجبران لميقاتي: عين الله ترعاك
هل من صيغة جديدة للبنان في حال كان مطلوباً إعادة الحياة إليه… أم سيمضي السنوات المقبلة في البحث عن مثل هذه الصيغة، مثله مثل سوريا، فيما كلّ ما يهمّ العالم، بمن في ذلك الولايات المتحدة، أمن إسرائيل، أي بقاء الوضع على حاله في جنوب لبنان في انتظار بلورة صيغة قد ترى النور وقد لا تراه!