ينشر “أساس” مقتطفات من كتاب “الملف الأفغاني” لمؤلّفه رئيس الاستخبارات العامّة السّعوديّة السّابق الأمير تركي الفيصل آل سعود على حلقات، بعدما أذِنَ مؤلّفه بذلك.
تحكي الحلقة الخامسة عن اغتيال عبدالله عزّام وبدء الاقتتال بين المُجاهدين في أفغانستان وعودة بعضهم إلى بلادهم، ومنهم أُسامة بن لادن الذي عرضَ على وزير الدّفاع السّعوديّ الأمير الرّاحل سُلطان بن عبد العزيز أن “يُحرّرَ” الكويت من جيش صدّام حسين بدلاً من قوّات التّحالف.
الحلقة الخامسة:
في 24 تشرين الثاني 1989، عندما وصلَ عبدالله عزّام إلى مسجدَ سبع الليل في بيشاور الباكستانية، لإمامة صلاة الجُمعة، اغتيلَ بسيّارة مُفخّخة. وكان هُناك عدد كبير من المُشتبه بهم لدوافع مُحتملة، وتعدّدت نظريّات المُؤامرة، ولم تُحلّ الجريمة. وفي اعتقادي أنّ من يقف وراء هذا الاغتيال هو قلب الدّين حكمتيار، رئيس الحزب الإسلامي في أفغانستان.
في أوائل 1990 غادَرَ أُسامة بن لادن أفغانستان عائداً إلى السّعوديّة. ومن الواضح أنّه شعرَ في تلك المرحلة بأن لا حاجة لوجوده في بيشاور، وأنّه يجب أن يُكرّسَ طاقاته لمُحاربة “العدوّ” في أماكن أخرى
كان اغتيال عزّام خسارة مُؤسفة لقضيّة الاعتدال في أفغانستان. خلال السّنوات التي قضاها في المنطقة، رأى العواقب الأثيمة للعُنف والطّموح الشّخصي، وأصبح رجلاً أكثر تفكيراً وحكمةً، وأقلّ حماسةً. لم يتّخذ الموقف القائل بأنّ جميع حكومات العالم الإسلامي غير شرعيّة، كما كان يفعل أُسامة بن لادن وأيمن الظّواهري. بعد وفاته، كان هذا الشّخصان هُما من تولّيا “مكتب الخدمات”. وقد أعادا تسمية “مكتب الخدمات” ليُصبح “تنظيم القاعدة”. وكان الهدف هو استحضار صُور معركة أُسامة ضدّ السّوفيات في جاجي، وتحضير المكتب ليصير النّقطة التي منها ستبدأ حملة الجهاد للقضاء على شكاوى المُسلمين ومعاناتهم في كلّ مكان.
في العام التّالي، انحطّ سلوك حكمتيار إلى مستوى شديد التّدنيّ. ففي آذار 1990 توصّل إلى اتفاق مع وزير الدّفاع في الحكومة الشّيوعيّة شاهناواز تاناي، وحاول تدبير انقلاب مُشترك في كابول. قصفت وحدات من سلاح الجوّ الأفغاني القصر الرّئاسيّ، لكنّها فشلت في قتل نجيب الله، بينما توجّهت قوّات مُدرّعة جنوباً لفتح الطّريق أمام مُقاتلي حكمتيار الذي كانوا يتقدّمون من المنطقة المُحيطة بجلال آباد. وقد باءت المُحاولة بالفشل.
ذلك التّحالف الأثيم بين شيوعيّ مُتشدّد وُمسلم مُتديّن ظاهريّاً، قضى على مصداقيّة كُل من شارك فيه – ولا سيّما حكمتيار – في نظر مُعظم المُقاومة الأفغانيّة وعامّة المواطنين ناهيكَ عن السّعوديّة والولايات المُتّحدة. وبدأ شعور اليأس بين المُجاهدين يدبّ إلى نفسي.
قبل عام، وفي وقت انسحاب السّوفيات، كُنّا نظنّ أنّ نظام نجيب الله سوف يسقط في غضون أشهر، وكان هناك اتفاق بشأن حكومة مؤقّتة توحِّد بين الغالبية. كانَ من الواضح أنّ حكمتيار يُحاول الاستيلاء على السّلطة لنفسه، وكان المُجاهدون في حالة حربٍ أهليّة. وقد أثبت الجيش الأفغاني كفاءته، ومُنِحَت حكومة نجيب الله فرصة جديدة للحياة، وهو ما مكّنها من البقاء لمدّة عاميْن آخريْن.
بن لادن يريد قتال صدّام حسين
في أوائل 1990 غادَرَ أُسامة بن لادن أفغانستان عائداً إلى السّعوديّة. ومن الواضح أنّه شعرَ في تلك المرحلة بأن لا حاجة لوجوده في بيشاور، وأنّه يجب أن يُكرّسَ طاقاته لمُحاربة “العدوّ” في أماكن أخرى. ويبدو أنّه لم يكن يقصد بـ”العدوّ” الحكومة الشّيوعيّة للدّكتور نجيب الله والاتحاد السّوفياتي فحسب، بل أيضاً أيّ شخصٍ “أضرّ بالمُسلمين”. في ذلك الوقت كان يضع نُصبَ عينيه جمهوريّة اليمن الدّيمقراطيّة الشّعبيّة، وهو الاسم الرّسمي لما كان يُطلق عليه عموماً “جنوب اليمن”.
حضرَ أُسامة لرؤيتي في جدّة بعد أيّامٍ من عودته، وكان ذلك هو اجتماعي الرّسمي الأوّل (والوحيد) معه. أوضحَ لي أنّ القوّة التي جمعها على الحدود الباكستانيّة – الأفغانيّة وعبر الحدود، لم تكن تضمّ سعوديين فحسب، بل العديد من اليمنيين أيضاً، والآن عادَ هؤلاء الشّباب إلى ديارهم، إلى شمال اليمن أو جنوبه، أو المملكة العربيّة السّعوديّة، وقد وصفهم بـ”مُجاهديَّ” ثمّ قال إنّه يطلب دعم السّعوديّة في مُساعدة مُجاهديه على طرد السّوفيات من جنوب اليمن. لقد كان مُخطّطاً غبيّاً، غير مدروسٍ على الإطلاق، وخطيراً وضدّ مصالح المملكة.
أوضحتُ لأسامة ما يجري – وفوجئتُ أنّه لم يفهم ذلك بالفعل – وأضفت أنّه إذا هاجم الجنوب، فقد يُوحّد فصائل الحكومة التي كانَ يأملُ في تدميرها. وممّا أثار دهشتي أنّه فشِلَ تماماً في قبول هذه الحجج. تركَ مكتبي وكانت تلك آخر مرّة رأيته فيها. بدا مُختلفاً تماماً عن الشّاب الهادئ الذي التقيته بصفة غير رسميّة عدّة مرّات في باكستان. وقد أصبحَ مُتغطرساً ومُتعجرفاً، وبدرجة كبيرة.
علمتُ فيما بعد أنّ أُسامة نقل مخطّطه إلى أفراد آخرين من عائلتي، وعلى وجه الخصوص إلى الأمير أحمد بن عبد العزيز، نائب وزير الدّاخليّة. وردّ عليه الأمير أحمد بالرّد نفسه الذي سمعه منّي. وعلمتُ أنّه كان يَودّ أن يلتقيَ الأمير سُلطان بن عبد العزيز، وزير الدّفاع، الذي كان مسؤولاً عن علاقات المملكة مع اليمن. ويبدو أنّ الأمير سُلطان كان مشغولاً للغاية عن رؤية أُسامة.
بعد بضعة أشهر، انصرَفَ انتباهي كلّه إلى الكويت. في الليلتين الأولى والثّانية من آب، اجتاحت قوّات صدّام حسين الكويت واحتلّتها. وعندما سمِعَ الملك فهد النّبأ، اتصلَ على الفور بصدّام، لكن قيل له: “معذرةً، الرّئيس غير موجود”. ثمّ اتّصلَ بالملك حُسين ملك الأردن، وقيل له: “سوف يُعاود الاتصال بك”. على هذا المُستوى يكون هذا النّوع من ردود الأفعال المُرتجلة غيرَ مُعتادٍ وشديدَ الإهانة. عندما تحدّث الملك في نهاية المطاف إلى الزّعيمين في وقتٍ لاحقٍ من اليوم، قال صدّام صراحةً إنّ الكويت كانت دائماً جزءاً من العراق، وهو ما أدّى إلى التّعجيل بإنهاء المُكالمة، وقال الملك حسين: إنّه “فوجئ تماماً بالتّحرّك العراقيّ، لكن يجب على الجميع (العمل لإيجاد حلٍّ عربيّ للأزمة…)”، وهو أمر من الواضح أنّه لن يكون فعّالاً.
بعد ذلك بيومين عُقدَ اجتماع لوزراء الخارجيّة العرب في القاهرة انقسمَ أمامه العالم العربيّ إلى مُعسكريْن، أدانت الغالبيّة الغزو، لكن ستّة وفود، من الأردن، واليمن والسّودان وتونس والجزائر ومُنظّمة التّحرير الفلسطينية بدت داعمة له. وبدا لنا موقفهم ودعمهم للعدوان غير المُبرّر من دولةٍ على أُخرى غيرَ أخلاقيّ البتّة.
… بعدَ أيّام قليلة، ظهرَ أُسامة بن لادن طالباً مرّة أُخرى لقاء الأمير سلطان، ووافق هذه المرّة، بدافع المُجاملة، لا لأنّ لديه شعوراً بأنّ ما سيقوله أُسامة سيكون ذا صلة بالموضوع المطروح على السّاحة. أوضحَ أُسامة أنّ السّعوديّة في نظره ليست بحاجة إلى دعوة الأميركيين أو أيّ شخص آخر لتحرير الكويت، وقال إنّ السّماح بدخول قوّات غير مُسلمة إلى المملكة خطأ، على الرّغم من فتوى هيئة كبار العُلماء التي تنصّ على جواز قبول المُساعدة من غير المُسلمين عندما يُهدّد العدوّ المُسلمين. كان البديل الذي اقترحه أُسامة أن يتولّى ومجاهدوه المهمّة بدلاً من القوّات الأجنبيّة، وقال: “طردنا السّوفيات من أفغانستان، ويُمكننا أن نفعل الشّيء نفسه مع العراقيين في الكويت”. كان اقتراحه صادماً، يُظهر جهله على جميع المُستويات. كان الأمير سُلطان مُهذّباً لكنّه كان حازماً وشكرَ أُسامة على اقتراحه.
إقرأ أيضاً: “الملفّ الأفغانيّ” (4/7): “ستينغر” يقصم ظهر السّوفيات…
* من كتاب “الملفّ الأفغانيّ” للمؤلّف الأمير تُركي الفيصل آل سعود الصّادر باللغة الإنكليزيّة:
THE AFGHANISTAN FILE – Arabian Publishing
الحقوق محفوظة للمُؤلّف.