الحليب اللاذع، الذي شربه الأتراك والأرمن خلال أكثر من محاولة تهدئة ومصالحة في العقدين الأخيرين، دفع كلا الجانبين إلى النفخ في اللبن هذه المرّة، وهما يتحدّثان عن محاولة جديدة باتجاه الحوار والتطبيع. آخر المحاولات كانت عام 2001 بوساطة أميركية من خلال لجنة “تارك” التي فشلت، على الرغم من كلّ الاستعدادات والرغبة المشتركة بصناعة الجديد.
عام 2009 كان هناك محاولة جديدة لم تعمّر كثيراً تحت سقف “دبلوماسيّة الكرة” التي وصلت إلى طريق مسدود بعد انفجار الأحداث مجدّداً في قره باغ. ويبدو أنّ تطوّرات المشهد السياسي في علاقات باكو (عاصمة أذربيجان) ويريفان (عاصمة أرمينيا) في الأشهر الأخيرة قد تشرّع الطريق أمام أنقرة (عاصمة تركيا) ويريفان أيضاً نحو خلطة حسابات جديدة بدعم روسي تجمّد الخلافات المزمنة بينهما وتكون حلقة من خارطة تفاهمات أوسع تجلسهما أمام طاولة تقاسم نفوذ إقليمي بين دول جنوب القوقاز يغلب عليها طابع تجاري إنمائي استراتيجي.
الواضح أنّ استئناف الحوار بين تركيا وأرمينيا ستكون له آثاره الإيجابية على علاقات البلدين، لكنّه سيخدم دول الجوار في جنوب القوقاز من أجل تحقيق الكثير من المشاريع الاستراتيجية
كيف سيكون شكل الحوار التركي الأرمني هذه المرّة؟ هل يبدأ من الصفر أم يستمرّ من حيث توقّف قبل 12 عاماً بعد وصول وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو ونظيره الأرمني إدوار نالبنديان يومها إلى رسم خارطة طريق تفاوضية؟ وهل تُترجم التصريحات الانفتاحية الأخيرة المتبادلة بين تركيا وأرمينيا إلى خطوات عمليّة ملموسة باتجاه تحسين العلاقات والانتقال بها نحو صلح كامل بعد فشل محاولات سياسية ودبلوماسية عديدة منذ العام 1993 حتى اليوم قادتها العديد من العواصم الغربية بشكل علني وسرّيّ؟ وهل تقبل واشنطن وباريس، مثلاً، وهما بين الأطراف التي تضرّرت مصالحها في أعقاب الإنجاز الروسي، بإيقاف احتراب الجبهات على إقليم قره باغ قبل عام، من خلال دور أكبر لموسكو، على حساب مصالحهما ونفوذهما في المنطقة؟ وهل تتخلّى ملايين “الدياسبورا” الأرمنية عن كلّ حملاتها وبرامجها السياسية الدعائية ضدّ تركيا لمجرّد أنّ أنقرة ويريفان اتّفقتا على إطلاق جولة جديدة من الحوار الاستكشافي؟
قد تكون المتغيّرات الإقليمية في منطقة القوقاز ومتطلّبات المرحلة تحتّم الإصغاء إلى ما تقوله روسيا وتركيا وإيران، وربّما الصين، هناك. لكن علينا ألا ننسى أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن هو الذي غامر وأغضب حليفه التركي في شهر نيسان المنصرم عندما اعتبر أنّ أحداث عام 1915 تمثّل “إبادة” تركية بحقّ الأرمن. فكيف ستقبل قيادات الشتات ويريفان التفريط بالمصالح الأميركية في جنوب القوقاز على هذا النحو؟ ثمّ أين حصّة إسرائيل التي وقفت إلى جانب باكو في حربها مع يريفان؟ وهل تتساهل تل أبيب حيال دور إيراني إقليمي في منطقة أرادت تحويلها إلى ساحة لعب خلفيّة عبر تفاهمات أوسع مع روسيا وتركيا؟
بدء خطوات التطبيع
قبل أيام، أعلن سكرتير الخارجية الأرمنية أنّ بلاده مستعدّة لبدء مفاوضات تطبيع العلاقات مع تركيا، وأنّها عيّنت نائب رئيس البرلمان روبن روبينيان مبعوثاً خاصاً لمتابعة الملفّ. بعد ساعات كشف وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو عن قرار تركيا تعيبن سفيرها سردار كيليش لتولّي ملفّ العلاقات التركية الأرمنية في المرحلة المقبلة.
وتبدو كبيرة جدّاً حظوظ كيليش وروبينيان في تحقيق اختراق حقيقي. فكلا الرجلين يعرف تفاصيل الملفّات الخلافية ومكامن القوة والضعف لدى الطرف الآخر. الأول هو دبلوماسي مخضرم عمل في واشنطن وبيروت وطوكيو لسنوات، وكان السكرتير العام لمجلس الأمن القومي التركي. أمّا الثاني فلا يقلّ عنه خبرة في العمل السياسي والتجربة الإقليمية، ويعرف المنطقة وتركيا جيّداً ويتكلّم لغاتها.
الصداقة والشراكة لا يمكن أن تكتملا بين ليلة وضحاها، فهناك عقود طويلة من التباعد والخلافات، لكنّ مسألة تقديم المصالح والفرص الاستراتيجية المتعدّدة الجوانب والأهداف هي التي ستتحكّم بقراراتهما هذه المرّة. بعد طاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الثلاثيّة في 26 تشرين الثاني المنصرم، التي جمعته مع إلهام علييف ونيكول باشينيان، ثمّ طاولة بروكسل الأوروبية في منتصف كانون الأول الحالي بإشراف فرنسي، التي سهّلت لقاء القياديّيْن الآذري والأرمني مرّة أخرى، يتمّ الإعداد لطاولة الحوار التركي الأرمني التي ستكون ثنائية ومباشرة هذه المرّة من دون وسطاء ولا فاعلي خير.
قال الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في أيلول الماضي، إنّ بلاده مستعدّة لبدء حوار مع أرمينيا، لكن يتعيّن على يريفان السماح بتفعيل ممرّ زنغزور الذي سيستفيد منه الجميع اقتصادياً وتجارياً. الواضح أنّ استئناف الحوار بين تركيا وأرمينيا ستكون له آثاره الإيجابية على علاقات البلدين، لكنّه سيخدم دول الجوار في جنوب القوقاز من أجل تحقيق الكثير من المشاريع الاستراتيجية التي ترفع من مستوى التنسيق والتعاون وتساهم في إنهاء خلافات مزمنة في المنطقة.
الهدف بالنسبة إلى أنقرة هو مواصلة ما بدأته في سياساتها الخارجية قبل أشهر مع العديد من العواصم الإقليمية تحت شعار المحادثات الاستكشافية وبحث فرص إصلاح العلاقات وإمكانية التطبيع
ممرّات النفط و”الحرير”
تفعيل ممرّ زنغزور بين تركيا ونهشفان وأرمينيا وأذربيجان سيواكبه فتح ممرّ يالشن بين أرمينيا وأذربيجان أيضاً. وقد بات من الواضح أنّ مصالح الدول الموجودة داخل إقليم جنوب القوقاز تحتّم عليها الانتقال بعلاقاتها السياسية نحو مرحلة متقدّمة لاستغلال الفرص الاقتصادية والتجارية وفتح خطوط نقل الطاقة والبضائع بين دوائرها الجغرافية أوّلاً، ثمّ بين آسيا وأوربا وإفريقيا ثانياً.
ممرّ “زنغزور” من شأنه أن يوفّر تواصلاً برّياً بين تركيا من جهة، والجمهوريات التركية في وسط آسيا والقوقاز من جهة أخرى، لكنّه على المدى البعيد سيساهم في تأسيس مشاريع استراتيجية لبناء خطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي وطرق نقل الطاقة في المنطقة إلى جانب لعب دور همزة الوصل في عالم التجارة بين الشرق والغرب، لا سيما أنّ الصين تذكّر دائماً بمسار “خطّ الحرير” الجديد وقيمته الاستراتيجية للمنطقة.
الهدف بالنسبة إلى أنقرة هو مواصلة ما بدأته في سياساتها الخارجية قبل أشهر مع العديد من العواصم الإقليمية تحت شعار المحادثات الاستكشافية وبحث فرص إصلاح العلاقات وإمكانية التطبيع. والحوار المرتقب بين تركيا وأرمينيا سيبدأ في هذا الإطار. لكنّ الانفتاح الأذري الأرمني سيسهّل حتماً تسريع المفاوضات بين أنقرة ويريفان. هناك مغريات إقليمية كثيرة تشجّعهما على إنجاز شيء ما هذه المرّة، لكن هناك أيضاً الكثير من العراقيل والعقبات التي لا تعدّ ولا تحصى. هناك مثلاً التشدّد القومي في الجانبين، الواجب تجاوزه. وهناك بحث العواصم الغربية عن حصّتها في القوقاز، الواجب حمايتها. إلى جانب تجاوز سدّ الرئيس بايدن الذي سيسأل عن الثمن الواجب تقديمه أرمنيّاً بعد التحوّل الأخير في مواقف واشنطن حيال الملف.
المباحثات الاستكشافية التركية الأرمنية ستسبقها حتماً ترتيبات تقنية كثيرة، بينها تحديد الأسماء المشاركة في الحوار وآليّة الاجتماعات واختيار أماكنها وتنظيم أولويات جدول الأعمال، لكنّ حجم الهوّة كبير بين الطرفين لأسباب سياسية وتاريخية واصطفافات متباعدة نتيجة التحالفات المتضاربة المصالح التي تبعد أحدهما عن الآخر. ثمّ هناك شعور أنقرة بمحاولات تهميشها من جانب فرنسا وأميركا بعد وقوفها العلني في قره باغ إلى جانب باكو. لكنّ ما يقلق أنقرة أكثر هو احتمال وجود محاولة التفاف روسية على دورها ومصالحها هناك عبر تنسيق مباشر بين موسكو وعواصم غربية، كما حدث أخيراً في بروكسل وسوتشي. لذلك هي تتمسّك بخطّتها القائمة على ترتيب منصة سداسية في إطار مجموعة “3+3” التي اقترحتها سابقاً، وهي عبارة عن منتدى إقليمي يتألَّف من دول جنوب القوقاز أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، إضافة إلى إيران وروسيا وتركيا، للاستفادة من المشاريع العملاقة التي تنتظر المنطقة.
العامل الأوّل والأهمّ في دفع المسار الجديد باتّجاه الحوار بين أنقرة ويريفان هو تراجع ملفّ أزمة قره باغ والحوار القائم بين أذربيجان وأرمينيا عبر وساطات روسية وأوروبية وأميركية. إلا أنّ العامل الأكثر أهمّية يبقى الرغبة المشتركة التركية الأرمنية في حماية المصالح الإقليمية التي تنتظرهما في جنوب القوقاز. لكنّ مسار الحوار التركي الأرمني ومصيره سيكونان مرتبطين بتقدّم المفاوضات الأرمنية الأذرية ونتائجها على الأرض، ثمّ بنتائج مفاوضات المنصة السداسية في جنوب القوقاز التي دعت إليها تركيا، وما زالت جورجيا تتحفّظ عليها بسبب توتّر علاقاتها مع روسيا في ملفات أبخازيا وأوسيتيا، إضافة إلى التفاهمات بين يريفان والدياسبورا الأرمنية على المسارات الجديدة وعدم عرقلتها. لا يقلّ جمع الأطراف حول طاولة التفاوض صعوبةً عن إرسالهم إلى الخنادق أحياناً، خصوصاً إذا كانت ملفّات الخلاف متداخلة ومتشابكة ومزمنة.
إقرأ أيضاً: العالم التركيّ الجديد
نجحت روسيا في الإمساك بخيوط اللعبة في جنوب القوقاز على حساب مجموعة مينسك، وهي قد تدعم الحوار التركي الأرمني، لكنّها لن تسمح بتغيير التوازنات والمعادلات على حسابها بما يتعارض مع ما تريده هناك، ولن تقبل بدور فرنسي أو إيراني أو إسرائيلي في المنطقة قبل تقاضي الثمن الاستراتيجي على ذلك في مكان آخر. الجميع يعرف أنّ القوات الروسية تنتشر عسكرياً في أذربيجان وأرمينيا، ولها اتفاقيات وعقود استراتيجية مع البلدين تحول دون ابتعادهما عنها كثيراً حتى لو كانت واشنطن هي الرافض والمعترض.