يقول السفير السابق جوني عبده، وهو الرئيس السابق للشعبة الثانية في الجيش اللبناني (المسمّى القديم لمديرية المخابرات)، إنّه في أحد اجتماعات اللجنة الأمنيّة المشتركة (سورية – لبنانية – فلسطينية) في أواخر السبعينيّات، تعرّف إلى ضابط سوري درزيّ بارز، مسؤول عن قسم لم يسبق أن خبرته الشعبة الثانية اللبنانية، وهو “فرع الشائعات” في الاستخبارات العسكرية السورية.
وعندما سأل عبده عنه، أُفيد بالآتي: “إذا رغب الرئيس في زيادة الأجور والرواتب بنسبة 8%، عمد فرع الشائعات إلى إطلاق شائعة عن ميل الرئيس إلى إصدار مرسوم بزيادة مقدارها 3%، لدرس ردود الفعل الشعبية على المبادرة، وتأثيرها في إظهار صورة الرئيس لدى الرأي العام، حتى إذا صدر المرسوم كانت النسبة 8%. وبذلك تكتسب صورته شعبية أكبر ممّا روّج “فرع الشائعات”: رئيس متعاطف ومتضامن مع شعبه، كثير الاهتمام بحاجاته، وأكثر إدراكاً لمتطلّباته” (مقابلة خاصة مع جوني عبده، وقد وردت هذه الفقرة في كتاب نقولا ناصيف “المكتب الثاني: حاكم في الظلّ”).
ليس مستغرباً نجاح التيار العوني في تضليل الرأي العام في العديد من المرّات، كما حصل مثلاً في فترة تكليف الرئيس الحريري بتشكيل الحكومة
إنّ استخدام الشائعة في عالم السياسة أمر قديم، وذلك بهدف السيطرة على الرأي العام، وتوجيهه إلى المكان الذي يريده مطلق الشائعة. وفي كتاب “سيكولوجية الشائعة” يعرّف عالم النفس الأميركي جوردن ألبرت الشائعة بأنّها “كلّ قضية أو عبارة نوعية مقدّمة للتصديق، وتتناقل من شخص إلى شخص، وذلك من دون أن تكون هناك معايير أكيدة للتصديق”.
وغالباً ما نجد أنّ الشائعة تحتوي على جزء صغير من الحقائق، لكن عند ترويجها تُحاط بأجزاء خيالية، بحيث يصعب فصل الحقيقة عن الخيال، أو يصعب التعرّف على الحقيقة من الخيال.
ويعدّ وزير الدعاية الألماني في الحقبة النازية جوزيف غوبلز من أشهر الشخصيات في هذا المضمار. ومع أنّه حدث الكثير من التضخيم والأسطرة لهذه الظاهرة في عالم الدعاية السياسية الكاذبة من قبل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ الجملة المنسوبة إليه، والتي يقول فيها “كلّما سمعت كلمة مثقّف، أتحسّسُ مسدّسي”، هي الأبلغ تعبيراً. فمطلقو الشائعات يعملون ما في وسعهم لخنق أيّ صوت أو قلم أو مؤسسة إعلامية تسهم في دحض المزاعم التي يسوّقون لها، من أجل أن تخلو الساحة لشائعاتهم.
وقد وجد الباحثون أنّ الشائعات تنتشر أكثر في الظروف المثيرة للقلق، وفي أوقات الأزمات، على اختلاف أنواعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وانتشار الإعلام البديل وغير التقليدي، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، والمجموعات الإخبارية على تطبيقات الهواتف الذكية، من أكثر الأسباب المساعِدة على ترويج الشائعات، وجعلها من النوع الخارق والحارق للانتشار في أوساط أيّ مجتمع.
ولدينا في لبنان نموذجان بارزان لكيفيّة استخدام الشائعات في تضليل الرأي العام، أو خلق رأي عام لقضية ما من العدم: التيار العوني وحزب الله، وسنأخذ الأول مثالاً في هذه العُجالة.
تحطيم الخصوم
يعتمد رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل على تسويق الشائعات على خطّين متوازيين: الأول للنيل من خصومه السياسيين، وما أكثرهم. والثاني للتسويق لإنجازات وهمية، سواء لعمّه رئيس الجمهورية ميشال عون بالدرجة الأولى، أو له شخصياً.
وكان “أساس” قد ذكر سابقاً، منذ سنة تقريباً، أنّ باسيل أنشأ غرفتيْ عمليات في إطار الحرب على الأعداء، واحدة قضائية وأخرى إعلامية مهمّتها تحقيق الهدفين المذكورين.
وضمن استراتيجية عمل هاتين الغرفتين، وبالتحديد الإعلامية، تحقيق اختراقات في مواقع إخبارية بارزة وشهيرة بالمنافع، وأحياناً باستخدام “عصا” السلطة، من أجل تضمين أخبارها العاجلة سيلاً لا ينقطع من الأخبار المُبالَغ فيها عن رئيس الجمهورية ونشاطاته وإنجازاته. بالإضافة الى أخبار تضرّ بالخصوم، من دون تبنّيها صراحة، وفق نموذج مصادر مقرّبة أو مصدر دبلوماسي أو ما شابه ذلك، حيث تُدمج بعض الحقائق مع الكثير من الشائعات، من دون إمكانية التأكّد من مدى دقّتها أو موضوعيّتها.
استخدام الشائعة في عالم السياسة أمر قديم، وذلك بهدف السيطرة على الرأي العام، وتوجيهه إلى المكان الذي يريده مطلق الشائعة
ولإيصالها إلى أكبر شريحة ممكنة من اللبنانيين، يتمّ تسويق هذه الأنباء ونشرها على المجموعات الإخبارية على تطبيقات الهواتف، ولا سيّما “الواتساب”، وعددها هائل جداً، والتي تنسخ الأخبار وتلصقها من دون الالتفات إلى مضمونها أو التدقيق به. فيتكرّر الخبر نفسه على نفس المجموعة عشرات المرّات. ومن المُتعارَف عليه في سيكولوجية الشائعة أنّ تكرارها يلعب دوراً كبيراً في ترسيخها.
وبهذه الطرق الملتوية يتمكّن التيار العوني من تمرير عدد هائل من الشائعات، حتى لو كانت متضاربة فيما بينها. والرأي العام أو الجماهير، على ما يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، “سريعة التأثّر والتصديق لأيّ شيء”.
وحتّى عندما لا تُصَدَّقْ تلك الشائعات، فإنّ كثرة تكرارها تجعلها حاضرة في الأحاديث والنقاشات والمسامرات بين الناس، وأحياناً تصبح “ترند” على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سيّما عندما تتضمّن أموراً شخصية عن المستهدَف، مثل خلافاته العائلية، أوضاعه المالية، علاقاته النسائية، لأنّها تجذب الاهتمام.
لذا ليس مستغرباً نجاح التيار العوني في تضليل الرأي العام في العديد من المرّات، كما حصل مثلاً في فترة تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة، حيث استطاع تحميله المسؤولية عن عرقلة التأليف، عن طريق حملات الشائعات المتنوّعة التي أطلقها، والتي ترسّخت لدى الناس، خاصة أنّ الحريري لا يستعمل هذا الأسلوب، وهو قليل الإطلالات الإعلامية، فاستغلّ باسيل المساحة الفارغة وملأها بالشائعات.
وإلى الحريري، تركّزت الحملات العونية دائماً على شاغلي المواقع السنّيّة الرفيعة في الدولة، كمدّعي عام التمييز، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي، ورئيس مجلس إدارة طيران الشرق الأوسط، وجعلتهم مادّة يومية في الإعلام، وحرّضت الرأي العام عليهم، وذلك لأنّ التيار العوني يريد تغييرهم والإتيان برجال موالين له مكانهم.
زيارة قطر
وتأسيساً على النجاحات السابقة، يستمرّ باسيل في استخدام هذه الطريقة، وآخر الأمثلة الدالّة عليها كان زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون دولة قطر.
فقد استثمر الاهتمام الذي حَظِيَ به عون في الدوحة، من أجل بناء جبل من الشائعات، من قبيل العلاقات المميّزة، ودخول الدوحة على خطّ الوساطة مع الرياض لإنهاء الخلاف مع بيروت، والمشاريع المستقبلية، والاهتمام بالاستثمار في لبنان، ولا سيّما في قطاع الطاقة. مع أنّ شركة الغاز القطرية سبق لها أن تقدّمت إلى المناقصة الخاصة بمحطات التغويز، التي تمّ تعطيلها، ولا جديد يُذكر في هذا المجال، لكنّ الآلة العونية أرادت الاستثمار في الوهم لا أكثر.
واقع الأمر أنّ الدوحة اعتبرت هذه المناسبة “بروفة” تدريبية أخيرة على استضافتها كأس العالم، الخريف المقبل. ووجّهت الدعوة إلى كلّ القادة العرب لحضور حفل افتتاح البطولة، الذي تمّ الإعداد له بعناية ليكون مُبهراً ولافتاً لأنظار العالم أجمع، وأفردت له الدوحة اهتماماً إعلامياً هائلاً. هي التي تمتلك تأثيراً لا يُستهان به في هذا المجال. فقامت غالبية الدول المدعوّة بانتداب شخصيات من الصف الثاني أو الثالث لتمثيلها، ما خلا لبنان وجيبوتي والسلطة الفلسطينية. ذلك أنّ رؤساء الدول الثلاث هذه يتوقون إلى الخروج من العزلة التي يعانون منها لا أكثر. وإذا قارنّا البيانين الصادرين عن الديوان الأميري عقب استقبال الرئيس عون ورئيس دولة جيبوتي، نجد أنّهما متشابهان جدّاً، بل ربّما هو النص نفسه تقريباً.
الضربة القاضية
استمرّت الآلة العونية في ضخّ الشائعات عن زيارة عون لقطر على مدى أيام، لكنّ الاتصال، الذي تمّ بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان مع الرئيس نجيب ميقاتي، خطف الأضواء الإعلامية من عون تماماً، وجعل كلّ حملة الشائعات تلك غير ذات فائدة، ناهيكم عن الغضب العوني العارم من تهميش ماكرون للرئيس عون، وإقصائه من المشهد لمصلحة الرئيس ميقاتي. سواء بأن يكون الأخير هو مَن تلقّى تمريرة ماكرون الهاتفية، أو تأخُّر الرئيس الفرنسي عن إجراء الاتصال الموعود بعون لوضعه في أجواء ما حصل، وهي رسالة فرنسية مقصودة، فهمها عون ولم ينجح في كظم غيظه منها.
إقرأ أيضاً: مخيف ما فعله العقل “العوني” بلبنان
بعد ذلك، وجّه وليّ العهد السعودي الضربة القاضية إلى تلك الحملة، من غير قصد طبعاً، وذلك في الجولة الخليجية التي قام بها، ومنها زيارته الدوحة، والبيان الصادر عقب اجتماعه بأمير قطر، الذي يناقض كلّ حملة التسريبات والشائعات العونية، سواء عن وساطة، أو استثمارات، أو أيّ محاولة قطرية مزعومة لملء الفراغ السعودي. فالبيان تضمّن كلّ الثوابت السعودية تجاه لبنان، وهي ضرورة إجراء إصلاحات شاملة، وأن لا يكون لبنان منطلقاً لأيّ أعمال تزعزع أمن واستقرار المنطقة، أو ممرّاً لتجارة المخدّرات.