لا مغالاة ولا استعارة في غير محلّها لكلمات أغنية المطربة نجاة الصغيرة وكلمات الشاعر نزار قباني. بل هي أدقّ وصف للاحتفاء الفلسطيني بعودة الحوار مع الإدارة الأميركية تحت عنوان التعاون الاقتصادي.
ومع أنّ مستوى الحوار الراهن يبدو منخفضاً كثيراً عن مستويات حوار شهر العسل الذي أنتجته أوسلو في البدايات، إلا أنّه يبدو مرتفع المستوى إذا ما قورن بما حدث زمن الرئيس ترامب، حيث الدمار الشامل للعلاقة، وحتى للرجاء الفلسطيني الذي ولّدته العملية السياسية.
عانى الفلسطينيون في عهد ترامب من انقلاب شامل ومدمّر وفظّ. أمّا في زمن بايدن فقد اكتشفوا انقلاباً من نوع آخر، وهو استبعاد المسار السياسي عن العمل
تجدّد الأمل الفلسطيني وأمل السلطة في رام الله، في المرحلة التي حفلت بإغداق الوعود، والتي ازدهرت على امتداد الحملة الانتخابية التي سعى خلالها الديموقراطيون إلى استقطاب أصوات العرب والمسلمين، في معركتهم الشرسة مع الجمهوريين. وحين استتبّ الأمر للديموقراطيين، تنفّس الفلسطينيون “المحتاجون” الصعداء وكأنّ “شهر عسل” بدايات أوسلو سيعود كما كان، وربّما أفضل، وذلك مع قليل من الانتباه الفلسطيني إلى الفرق بين حديث السرايا أثناء الحملة الانتخابية وسلوك القرايا حال الانتقال إلى البيت الأبيض.
عانى الفلسطينيون في عهد ترامب من انقلاب شامل ومدمّر وفظّ. أمّا في زمن بايدن فقد اكتشفوا انقلاباً من نوع آخر، وهو استبعاد المسار السياسي عن العمل، وهو المسار الذي كانت ذروته أيّام أوباما ووزير خارجيّته جون كيري، واستبداله بالمسار الاقتصادي الذي يخاف الفلسطينيون منه لأنّه ينقل قضيّتهم الكبرى إلى وضع يفرغها من محتواها السياسي ويستبدله بمحتوى اقتصادي هو في جوهره إسعاف فحسب لإنقاذ الحالة المحتضرة من موت نهائي، فضلاً عن أنّه الخيار المفضّل لإسرائيل، سواء الليكودية أو الائتلافية.
وعلى الرغم من كلّ الشعارات الشديدة القسوة التي توصف بها أميركا من قبل الطبقة السياسية الفلسطينية التي ما تزال تحتفظ بأدبيّات الحرب الباردة، التي أنتجت تحوّلات لم تغادر مربّع الاعتماد الكلّيّ على أميركا، وذلك لأسباب موضوعية وليس لخيارات تحتمل الصواب والخطأ فحسب، بل لأنّ الحالة الفلسطينية الراهنة تدفع قيادتها الرسمية من أجل العودة إلى المفاوضات. فمَن غير أميركا يمسك بيدها في رحلة الذهاب إليها، ومَن غير حلفاء أميركا في المنطقة يمكن أن يتحدّث مع إسرائيل في هذا الأمر؟
إنّ أكثر مَن يدرك احتياجات القيادة الرسمية لأميركا هم الأميركيون أنفسهم، لذا فقد شرعوا في برمجة العلاقة مع الفلسطينيين وفق معادلة جديدة قوامها الاستمرار في إعلان المواقف التقليدية التي تُرضي الفلسطينيين كحلّ الدولتين، والضغط على إسرائيل لوقف بعض الأنشطة الاستيطانية الاستفزازية، والوعد بفتح القنصلية في القدس الشرقية، والتفتيش عن طريقة لمعالجة مشكلة إعادة افتتاح الممثّليّة الفلسطينية في واشنطن، وأثناء ذلك ينصرف الجهد العملي بكلّيّته إلى المسار الاقتصادي المرتبط بالمسار الأمني، ومع أنّ الفلسطينيين رفضوا ذلك إلا أنّهم مضطرّون أخيراً إلى القبول به.
التجربة الفلسطينية مع الأميركيين زمن الحرب والسلام، تجعلهم أكثر درايةً من غيرهم بحدود التوقّعات من سياسات الدولة العظمى، ويعرفون الهوامش المتاحة لهم، ويعرفون أيضاً أين وضعت أميركا إسرائيل ومصالحها والتحالف معها في سياساتها الشرق أوسطية، وحتى الكونية. فأميركا تضع إسرائيل في منزلة لا تدانيها منزلة أيّ حليف في أيّ مكان من العالم. ومن المفترض أنّهم عرفوا بالممارسة أنّ أميركا تحترم رغبة إسرائيل الدائمة في اعتبارها الشأن الفلسطيني شأناً داخليّاً إسرائيليّاً، تعلو كلمتها فيه كلمة واشنطن. وهذه الحقيقة لا تحتاج إلى سرد أدلّة عليها، فكلّ فصول العلاقة مع الفلسطينيين بسلبها أو إيجابها كانت تتمّ تحت الأسقف الإسرائيلية، ومَن يختلف مع هذا التحليل فما عليه إلا أن يسأل السيد جون كيري لمعرفة ما حلّ به وبرئيسه حين شمّروا عن سواعدهم وتوغّلوا في جهد مواظب ينطوي على بعض نزاهة، وكانت الخلاصة أنّ الوزير الذي أوشك أن يكون رئيساً من قبل، أعلن اعتذاره، وقال قولته الشهيرة: “تتحمّل إسرائيل المسؤوليّة عن فشل جهودي”.
إقرأ أيضاً: قرن اللعنة على العرب
الفلسطينيون الذين تمثّلهم الطبقة السياسية الرسمية يحتفلون بعودة ما كانوا يرفضونه، وهو الحوار الاقتصادي مع الأميركيين، مع تواصل الحوار الأمنيّ وتأجيل الحوار السياسي المباشر، وذلك بفعل ضغط الحاجة في ظرف تسود فيه معادلة “شيء ما أفضل من لا شيء”.