ينفرد “أساس” بنشر مقتطفات من كتاب “الملف الأفغاني” لمؤلّفه رئيس الاستخبارات العامّة السّعوديّة السّابق الأمير تركي الفيصل آل سعود على حلقات، بعدما أذِنَ مؤلّفه بذلك.
خاض الأمير تركي الفيصل رئاسة الاستخبارات السّعوديّة في الفترة الزمنية الأكثر أهميّة وحساسيّة في تاريخ أفغانستان الحديث. دفعته مسؤوليّته إلى أن يُقدّم شهادته على تلك الفترة وعلاقة المملكة بالملفّ الأفغاني من واقع عمله الذي امتدّ لأكثر من 20 سنةً في هذا الملفّ المثير للجدل في كتابه “الملفّ الأفغانيّ”.
تحكي الحلقة الأولى عن اللحظات الأولى عشيّة الغزو السّوفياتي لأفغانستان، وما رافقه من خطوات سارعت المملكة العربيّة السّعوديّة لاتخاذها مع حلفائها وأصدقائها، وفي مقدّمهم باكستان في إطار الدّفاع عن سيادة أفغانستان وشعبها والأمن القوميّ العربيّ
تزامن نشرُ الكتاب مع فرض الحدث الأفغانيّ نفسه مجدّداً على رؤوس نشرات الأخبار وعناوين الصّحف العالميّة بعد الانسحاب العسكريّ الأميركيّ من بلاد ما وراء النّهر. كان الحدثُ محطّ أنظار الملايين حول العالم، خصوصاً المشاهد التي بيّنت مئات الأفغان وهم يحاولون عبثاً التّعلّق بالطائرات الأميركيّة المغادرة تجنّباً للعيشِ تحت رحمة حركة “طالبان”.
الأمير تُركي الفيصل آل سعود هو النّجل الأصغر للملك فيصل بن عبد العزيز. واحدٌ من أبرز الشّخصيّات التي ارتبط اسمها بعالم الاستخبارات والدّبلوماسيّة. تولّى منصب رئيس الاستخبارات العامّة في المملكة العربيّة السّعوديّة ربع قرنٍ من الزّمن بدءاً من عهد الرّاحل الملك خالد بن عبد العزيز سنة 1977، قبل أن يُعيّن سفيراً للمملكة لدى بريطانيا في عهد الرّاحل الملك فهد بن عبد العزيز حتّى سنة 2005. مع تولّي الرّاحل الملك عبدالله بن عبد العزيز، انتقل الأمير تركي إلى عاصمة القرار واشنطن حتّى 29 كانون الثّاني 2007.
شخصيّة جدية تعرفُ الكثير وتكشف القليل. توحي تعابير وجهه، التي تُذكّر النّاظر إليها بوالده الملك فيصل، بالإصرار والجدّيّة.
تحكي الحلقة الأولى عن اللحظات الأولى عشيّة الغزو السّوفياتي لأفغانستان، وما رافقه من خطوات سارعت المملكة العربيّة السّعوديّة لاتخاذها مع حلفائها وأصدقائها، وفي مقدّمهم باكستان في إطار الدّفاع عن سيادة أفغانستان وشعبها والأمن القوميّ العربيّ.
الحلقة الأولى:
عشيّة الغزو السّوفيتيّ
كُنتُ مواظباً على عادة أبي، الملك فيصل رحمه الله، في الاستماع إلى أخبار محطّة “بي بي سي” في السّاعة السّابعة مساءً. كانَ أبي يُتابع الأخبار عبرَ مذياعٍ من طراز Zenith الذي يعمل بالبطّاريّة، ويستمع إلى أخبار “بي بي سي” باللغة العربيّة، ثمّ يدير المؤشّرَ ليستَمِعَ إلى عناوين الأخبار من صوت أميركا، ثمّ ينتقل بين المحطّتين للاستماع إلى ما كان يأملُ أن يكونَ أفضل ما في كلتيْهما. بعد نصفِ ساعة، كان السّكرتير يُعدُّ له النّصوص الكاملة مطبوعةً على الورق.
السّاعة السّابعة مساءً بتوقيت الرّياض يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 1979 م، وأنا أتابع الخدمة العالميّة لهيئة الإذاعة البريطانيّة، حين سمعتُ الأخبار التي تُفيدُ بأنّ الاتحاد السّوفيتيّ قد غزا أفغانستان. وكانت العمليّة قد بدأت مع حلول الظّلام في كابول قبل حوالي ثلاث ساعات. ومن وجهة النّظر السّوفيتيّة، مع التّركيز على ردّ الفعل الغربيّ، بدت عشيّة عيد الميلاد – بلا شكّ – لحظة جيّدة “لإخفاء الأخبار السّيّئة”. وإذا كانت هذه هي طريقة تفكير موسكو، فإنّها لم تُؤتِ ثمارَها.
كانت الأخبار قاتمةً، لكنّها لم تكُن غير مُتوقّعة على الإطلاق، فلشهور كُنّا نشعر أنّ الرّوس يتوجّهون نحو التّدخّل العسكريّ المُباشر في أفغانستان. في وقتٍ مُبكر من اليوم التّالي، 25 ديسمبر (كانون الأول)، ذهبتُ لرؤية الملك خالد خليفة أبي، ووليّ العهد الأمير فهد، اللّذَين ساورهما قلقٌ بشأن المدى الذي قد يصل إليه السّوفيت في أفغانستان، فلمئةٍ وخمسين عاماً كانت روسيا تطمح إلى الحصول على ميناء بمياهٍ دافئة، ومنفذٍ على المُحيط الهنديّ أو عبر الخليج أو بحر العرب أو بشكلٍ غير مُباشر عبر البحر الأبيض المُتوسّط. كان الدّافع الأكبر لـ”اللعبة الكبرى” – المُنافسة بين بريطانيا وروسيا في أفغانستان وآسيا الوُسطى في القرن التّاسع عشر – هو رغبة روسيا في اختراق المُحيط الهنديّ، ورغبة بريطانيا في التّصدي لها. بدا الأمرُ الآن لنا كما لو أنّ الرّوس يعودون إلى استراتيجيّتهم القديمة، وتساءلنا عمّا إذا كانوا سيُكملون عبر أفغانستان إلى باكستان، ورُبّما يُثيرون المُشكلات في إقليميْ السّند أو بلوشستان، ويُمضون قُدماً لاحتلالهما. وقد كان هذا مصدر قلق فوريّ وكبير لنا، فكراتشي، عاصمة إقليم السّند، تبعد أقلّ من ثلاث ساعات بالطّائرة عن الرّياض، وباكستان جارتنا تقريباً، وهي صديقة حميمة، ويعمل عدد كبير من الباكستانيين في المملكة العربيّة السّعوديّة. وليس لمملكتنا ميناء على بحر العرب، لكنّ شبه الجزيرة العربيّة ككلّ لها عليه ساحل طويل. وكانت معرفة الدّول التي تنشط نشاطاً عسكريّاً في ذلك البحر والمحيط الهنديّ أمراً مهمّاً لنا.
“ماذا لدى أصدقائنا بخصوص هذا الشأن” سأل الأمير فهد في إشارةٍ إلى أجهزة الاستخبارات الأميركيّة والبريطانيّة والفرنسيّة. أتذكّر أنّني أخبرته أنّنا لم نسمع شيئاً بعد، لكن بعد ساعتيْن عندما عُدتُ إلى مكتبي في رئاسة الاستخبارات العامّة بدأت التّقارير ترد من هؤلاء الحلفاء الثّلاثة، إلى جانب برقيّات من سفارتنا في كابول. وفي وقتٍ لاحقٍ من اليوم نفسه، اتّصل الجنرال ضياءُ الحقّ رئيس باكستان هاتفيّاً، وتحدّث إلى كلٍّ من الملك خالد والأمير فهد، وكان السّوفيت قد شنّوا غزواً واسِعَ النّطاق.
وباسترجاع ما جرى، أقول: إنّ ما اتّخذناه بالفعل في تلك السّاعات الأربع والعشرين الأولى، من البقاء على اتصالٍ مع البلدان التي ستضطلعُ معنا بالدّور الأكبر في مُحاربة الاحتلال السّوفيتي خلال السّنوات التّسع المُقبلة، كان أمراً بالغَ الأهميّة.
معركة الدّفاع عن الإسلام
في اليوم التّالي للغزو، استدعى الرّئيس ضياء الحقّ إلى مدير جهاز الاستخبارات، الجنرال أختر عبد الرّحمن خان، وطلب منه إعداد “تقدير للوضع”، مع تقديم توصيات للعمل، وقد قدّم الجنرال أختر تقريره في غضون أيّام.
إقرأ أيضاً: أفغانستان: طالبان قوّة جاذبة لمسلمي الصين وروسيا..
كان أوّل ما أثار قلقه أنّ الاتحاد السّوفيتي – وهو قوّةٌ مُلحدة – قد غزا بلداً مُسلِماً، لدعم القادة الاشتراكيين الذين كان هدفهم المُعلن إقامة دولة علمانيّة، بل شيوعيّة في الواقع. لم يخشَ هو ولا الجنرال ضياء الحقّ أن يُؤدّي ذلك إلى تقويض الطّبيعة الدّينيّة للمجتمع الأفغانيّ، لكن بدا لأختر أنّ باكستان مُلزمة أخلاقيّاً بالدّفاع عن الإسلام على أرض جارتها. ولا ينبغي لأيّ قارئٍ لهذا الكتاب أن يُقلِّلَ من أهميّة الالتزام الأخلاقي والعاطفي للمُسلمين بمُساعدة غيرهم من المُسلمين، فهذا عنصر شديد القوّة في السّياسة الحديثة. كان لأختر مخاوف عسكريّة أيضاً، فقد كان مُدركاً تماماً مثلنا أنّه ما إن يُسيطر السّوفيت على أفغانستان – وهو ما يبدو أنّهم عازمون على فعله – حتّى تكون قوّاتهم في العاصمتيْن الجنوبيّتيْن قندهار وهلمند، على حدود لوشستان، وبلوشستان كانت هي المُقاطعة التي يحتاجون إلى الاستيلاء عليها أو غزوها حتّى يصلوا إلى البحر. وكان هناك مصدر قلقٍ آخر يتعلّق بالطّريقة التي ستتأثّر بها باكستان إذا أقامت حكومة شيوعيّة في كابول علاقات وثيقة مع حكومة الهند، وكانت الهند في ذلك الوقت تتمتّع بعلاقاتٍ قويّة للغاية مع الاتحاد السّوفيتي. كان واضحاً لأختر أنّه في حالة اندلاع حرب أخرى مع الهند – وقد وقعت بالفعل ثلاث حروب بين القوّتين – يُمكن أن تجد باكستان نفسها بين المطرقة والسّندان مُهدّدة من الجانبيْن. حتّى في الظّروف الأقلّ تطرّفاً، يُمكن للتحالف الهندي – الأفغاني الضّغط على باكستان من خلال زيادة تسليح القبائل الباكستانيّة على الحدود الشّماليّة الغربيّة، وهو ما سيزيد بقوّة ممّا لديهم بالفعل من نزعة استقلاليّة وتحدٍّ للسّلطة المركزيّة. وبالنّظر إلى أنّ أفغانستان لم تقبل قطّ الحدود بينها وبين باكستان، فإنّ تأليب القبائل الحدوديّة يُمكن أن يتبعه بسهولة المُطالبة بجزءٍ من المقاطعة الحدوديّة الشّماليّة الغربيّة.
*من كتاب “الملفّ الأفغانيّ” للمؤلّف الأمير تُركي الفيصل آل سعود الصّادر باللغة الانجليزيّة: THE AFGHANISTAN FILE – Arabian Publishing
الحقوق محفوظة للمُؤلّف.