منذ بداية العام الحالي، تسعى هند زيتون المقيمة في منطقة حلبا شمال لبنان إلى الحصول على المستندات القانونية المطلوبة لابنتها راما لكي تتمكّن من إجراء الامتحان الرئيسي في المدارس الحكومية اللبنانية.
تأتي مساعي السيدة تلبيةً لمتطلّبات لوائح وزارة التربية اللبنانية التي تنصّ على أنّ الطلاب الذين يتقدّمون لامتحانات الصفّين التاسع الأساسي والثالث الثانوي لا بدّ أن تكون لديهم إقامة صالحة أو جواز سفر لم تنتهِ مدّته ومختوم.
فشلت السيدة في توفير المستندات القانونية على الرغم من محاولاتها المتتالية. وقد تبدّدت معها أحلام راما، البالغة من العمر 16 عاماً، لأنّها فقدت الأمل بحصولها على أيٍّ من هذين المستندَيْن.
قالت مها شعيب، مديرة مركز الدراسات اللبنانية، في تقرير سابق، إنّ “لبنان يُفرّط بمئات الملايين من الدولارات التي يرسلها المانحون لتعليم الأطفال اللاجئين عبر منع هؤلاء الأطفال من التقدّم إلى الامتحانات المدرسية
راما واحدة من 660 ألف طفل سوري لاجئ يستضيفهم لبنان تستوجب سنّهم أن يلتحقوا بالمدرسة، لكن بحسب تقييم للأمم المتحدة، فإنّ 30% منهم، أي 200 ألف، لم يذهبوا إلى المدرسة قطّ، و60% لم يتسجّلوا في المدارس خلال السنوات الأخيرة.
دفعت هذه الأرقام منظمة هيومن رايتس ووتش إلى مطالبة وزارة التربية اللبنانية بإنهاء السياسات التي تمنع وصول الأطفال السوريين اللاجئين إلى التعليم. وقد أصدرت المنظمة تقريراً منذ أيام طالب الوزارة بتمديد الموعد النهائي للتسجيل في المدارس للأطفال السوريين.
وبحسب المنظمة، فقد حرمت سياسة الوزارة آلاف الأطفال السوريين اللاجئين من الذهاب إلى المدرسة، بسبب طلبها سجلّات تعليمية مصدّقة وإقامة قانونية في لبنان ووثائق رسمية أخرى لا يستطيع العديد من السوريين الحصول عليها.
وتعني قرارات وزارة التربية اللبنانية المتأخّرة أنّ العديد من الأطفال السوريين لم يتمكّنوا من التسجيل في 4 كانون الأول الحالي، من بينهم راما التي قرّرت ترك المدرسة بشكل نهائي على الرغم من كلّ مساعي والدتها للحصول على الوثائق المطلوبة.
تقول الفتاة في اتصال مع “أساس“: “لقد باعت أمي أثاثنا المنزلي منذ سنتين لكي تدفع رسوم الوثائق القانونية المطلوبة لأخي الكبير من أجل أن يجري الاختبار النهائي وقتذاك… أنا لا أريد أن تبيع أمّي ما تبقّى لدينا في هذه الغرفة لكي أكمل دراستي. أنا لا أريد أن أكون عبئاً أكبر عليها، لذلك قرّرت ترك الدراسة“.
تعيش راما مع عائلتها المكوّنة من خمسة أشخاص على مساعدة أممية شهرية قدرها 75 دولاراً. وصلت الفتاة وعائلتها نهاية العام 2013 من ريف دمشق الغربي بعد فقدان والدها على أحد الحواجز الأمنيّة لقوات النظام السوري.
آليّات مبهمة
تشير الأرقام الرسمية إلى أنّ عدد اللاجئين السوريين في لبنان بلغ حوالي مليون ومئتي ألف شخص، منهم حوالي 870 ألف مسجّلين في مفوضيّة الأمم المتحدة للّاجئين. ويشكّل السوريون الحاصلون على إقامة قانونية في لبنان 16%، أي أنّ حوالي 84 في المئة من اللاجئين السوريين المسجّلين (فوق سنّ 15 عاماً) من مجموع اللاجئين السوريين الكلّيّ في لبنان، ليس لديهم تصاريح إقامة في البلاد وفقاً لتقرير للأمم المتحدة عن العام 2021.
تواصل “أساس” مع خمس عائلات سورية تقطن في مناطق جغرافية مختلفة في لبنان، فأكّدت جميع العائلات أنّ العائق الماديّ والافتقار إلى الوثائق كانا السببين الرئيسيّين لعدم حصولها على إقامة، إذ يتطلّب استخراج إقامة حوالي 300 دولار أميركي (على سعر صرف 1500 ليرة) للفرد الواحد في العام.
أمّا الحصول على جواز سفر من السفارة السورية في بيروت فيتطلّب 325 دولاراً (على سعر 1500) بعد شهر أو 800 دولار (على 1500 أيضاً) خلال أسبوع، فيما متوسّط الدخل الشهري للأسرة الواحدة من اللاجئين السوريين لا يتعدّى 300 ألف ليرة، الأمر الذي يجعل 90% من اللاجئين السوريين على الأقلّ يعيشون اليوم تحت خطّ الفقر المدقع في لبنان، بعدما كانوا 55% في 2019.
في هذا التقرير المعمّق يكشف “أساس” عن الآليّات المبهمة التي تستخدمها السلطات اللبنانية في ما يتعلّق بالمستقبل الدراسي للأطفال السوريين، حيث لا تسمح بتسجيل الأطفال بدون الوثائق السورية المطلوبة على الرغم من أنّ وكالات الأمم المتحدة تشير بشكل واضح إلى قدرة الطلاب السوريين على التسجيل بدون الوثائق المطلوبة.
قيود غير قانونية
تشير وكالات الأمم المتحدة في المادة 10 الخاصّة بالتسجيل، في الصفحة 13 من وثيقة مرجعيّة تتضمّن أسئلة وأجوبة، إلى أنّ الطلاب غير اللبنانيين (السوريين) في الصفّين الأساسي التاسع والثانوي الثالث يمكنهم الخضوع للامتحانات الرسمية اللبنانية، حتى لو لم يمتلكوا الوثائق والمستندات المطلوبة ومن دون أيّ قيود. بيد أنّ وزارة التربية اللبنانية لا تسمح بتسجيل الأطفال في المدارس، وتمنع العديد منهم من الحضور.
قبل هذه القيود، وبشكل سنويّ، كان الأطفال السوريون، الذين يسعون إلى حضور الصفوف العادية، ينتظرون حتى انتهاء تسجيل الأطفال اللبنانيين ليتسجّلوا في الأماكن المتاحة.
لكن مع بداية العام الحالي انخفض عدد الأماكن المتاحة بسبب انتقال 54 ألف تلميذ لبناني من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية خلال العام الدراسي 2020/2021، مع تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.
وقالت مديرة المناصرة في الاتحاد الأوروبي ومديرة مكتب بروكسل في هيومن رايتس ووتش، لوت ليخت، إنّ “أغلبية الأطفال السوريين في لبنان لا يحصلون على شيء، وخطة الحكومة غامضة، وهي تقيّد أيدي المنظمات الإنسانية بالروتين والعقبات التي لا يمكن تبريرها”.
بدورها، تؤكّد الدكتورة هدى العبسي، وزيرة التربية والتعليم السابقة في الحكومة السورية المؤقّتة، في حديث مع “أساس”، أنّ لبنان تلقّى مبلغاً محدّداً عن كلّ طفل سوري لاجئ مسجّل في المدرسة، ودُفِعت له الرسوم المدرسية للأطفال اللبنانيين، بتكلفة تزيد على 440 مليون دولار بين العامين الدراسيّين 2015 و2019، إضافة إلى تمويل المنظّمات الإنسانية التي توفّر التعليم غير الرسمي للأطفال اللاجئين.
وتدفع الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي للبنان نحو مليار دولار تُخصَّص لتعليم الطلاب، وتأهيل وبناء المدارس، وتحديث المناهج التربوية، وإقامة ورشات تدريب، إضافة إلى رواتب المعلّمين وتوفير 11 ألف وظيفة لتعليم اللاجئين (معلّمين وإداريّين).
لا استجابة
ترسم الرسائل النصّية، التي يرسلها مديرو المدارس، صورة واضحة لِما يحدث. حيث تؤكّد هذه الرسائل على ضرورة تقديم الوثائق الرسمية للتسجيل في المدارس، إلا أنّ نحو 70% من الأطفال السوريّين المولودين في لبنان يفتقرون إلى هذه الوثائق، بحسب تقييم الأمم المتحدة في 2021 رغم أنّ النائب نهاد المشنوق خلال توليه وزارة الداخلية أصدر قرار أسمع فيه تسجيل ولادات السوريين النازحين في لبنان باثبات الزواج بين الوالدين وبشهادة ولادة مصدّقة من مختار المنطقة التي يعيش فيها الأهل.
وفي نهاية شهر آذار 2020، أرسل مركز الدراسات اللبنانية مذكّرة لإخطار وزارة التربية اللبنانية ووكالات الأمم المتحدة بأنّ مديري المدارس يطالبون الطلاب السوريين بتقديم تصريح إقامة. وطلب المركز تعليق هذا المطلب إلى أجل غير مسمّى، لكن لم يكن هناك أيّ ردّ. وبدلاً من ذلك، نشرت وزارة التربية التعميم رقم 11، الذي يطالب الطلاب غير اللبنانيين في المدارس الحكومية والخاصة بتقديم تصريح إقامة أو وثائق رسمية أخرى تصدر عن جهاز الأمن العام اللبناني، الذي يتحكّم بالحدود والإقامات، لإجراء امتحاناتهم.
وعمل مركز الدراسات اللبنانية ومنظمة هيومن رايتس ووتش، بدعم من منظمات المجتمع المدني التي تقدّم التعليم والمساعدة القانونية للّاجئين في لبنان، على توثيق 18 حالة لأطفال سوريين منعتهم السلطات من التسجيل في امتحانات الصف التاسع خلال العام الدراسي الحالي، وعشر حالات لطلاب يبلغون من العمر 18 عاماً أو أكثر غير قادرين على تقديم المستندات اللازمة للتقدّم لامتحانات الصف الثاني عشر.
حديث الصورة: رسالة نصّيّة تُلزم الطلاب بتقديم تصريح إقامة وإخراج قيد مصدّق من الخارجية اللبنانية والسفارة السورية.
من جهتها، قالت مها شعيب، مديرة مركز الدراسات اللبنانية، في تقرير سابق، إنّ “لبنان يُفرّط بمئات الملايين من الدولارات التي يرسلها المانحون لتعليم الأطفال اللاجئين عبر منع هؤلاء الأطفال من التقدّم إلى الامتحانات المدرسية. ينبغي للمانحين الدوليين، الذين تبرّعوا بسخاء لتفادي ضياع جيل، مطالبة الحكومة بإزالة هذه العوائق أمام التعليم نهائيّاً“.
وعلى الرغم من أنّ عدداً من المنظّمات الإنسانية يدير مدارس غير رسمية بالقرب من مجتمعات اللاجئين، ويمكنها الوصول إلى أعداد كبيرة من الأطفال، إلا أنّ وزارة التربية اللبنانية تمنع هذه المجموعات من تدريس المناهج المدرسية العادية، ولا تعترف بالشهادات الصادرة.
وتسمح الوزارة للمنظّمات الإنسانية بتدريس أساسيّات الحساب وإدارة صفوف لمحو الأمّيّة، والتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، لكنّها لم توافق على أيّ برنامج تعليمي غير رسمي للأطفال من سنّ 7 إلى 9 سنوات، بحجّة أنّ على الأطفال الالتحاق بالمدارس العامّة.
إقرأ أيضاً: سوريا هي الأسوأ عالميّاً للنساء والفتيات
اليوم، يواجه الطلاب السوريّون تحدّيات عديدة في الالتحاق بالتعليم، من بينها إيجاد مكان في المدارس، إضافة إلى الوثائق والمستندات المطلوبة والآليّات المبهمة التي تتّبعها وزارة التربية والتعليم اللبنانية. ووفقاً لإحصاءات الوزارة فإنّ أقلّ من 1 في المئة يستطيعون المواصلة حتى الصف الأساسي التاسع، مع أنّ ملايين الدولارات قُدِّمت لتعليم أطفال اللاجئين السوريين، الأمر الذي يجعل من الصعب العثور على إجابات للأسئلة عن سبب عدم تلبية احتياجات الأطفال اللاجئين التعليمية الأساسية في الماضي كما في الحاضر مع حواجز جديدة أوجدتها وزارة التربية والتعليم اللبنانيّة.