{ربَّنا افتحْ بينَنا وبينَ قومِنا بالحقّ وأنتَ خيرُ الفاتحين}
[الآية 89: سورة الأعراف].
هكذا افتتح سيف الإسلام القذافي حملته لرئاسة ليبيا الجديدة عقب تقديمه طلب الترشّح، في 14 تشرين الثاني الماضي، بآية قرآنيّة تتضمّن دعاء الأنبياء على أقوامهم الكافرين كي يفرّق الله بين الحقّ والباطل. وهي تشير كذلك، ولو من بعيد، إلى الانقلاب العسكري على الملك السنوسي عام 1969، الذي بات يُعرف بثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول)، وبه وصل القذافي الأب إلى الحكم. ثمّ أكمل: “والله غالب على أمره ولو كره الكافرون”. وليس في القرآن آية في هذا السياق، بل إنّه دمج بين جزءيْ آيتين. فقد وردت عبارة ]واللَّه غالبٌ على أمْرِه[ في الآية 21 من سورة يوسف. وهي تحكي قصة شراء عزيز مصر ليوسف من قافلة تجاريّة عثرت عليه ملقيّاً في البئر. وإخوته هم مَن ألقوه فيها. وبدلاً من أن تنتهي الحكاية بنقمة، انتهت إلى نعمة. تربّى يوسف في منزل أحد كبراء مصر الفرعونية. ومع الوقت صار له شأن كبير في السلطة:
[وكذلكَ مكّنّا ليوسُفَ في الأرضِ ولِنعلّمَه منْ تأويلِ الأحاديثِ واللّه غالبٌ على أمره ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون]{الآية 21: سورة يوسف}. ولا يخفى المعنى الذي أراده سيف الإسلام من إيراده هذا الجزء من الآية. فهو يريد أن يقول إنّ إخوانه الليبيّين قبل عشر سنوات ظلموه، ورموه في السجن، وحكموا عليه بالإعدام. ولكنّ الله أراد له مصيراً مختلفاً، وسيُمكَّن له في الأرض، كما مُكِّن ليوسف، وسيصبح حاكماً على إخوته الظالمين له عندما يفوز بالانتخابات. وهذا المعنى متضمَّن أيضاً في آية الأعراف، إذ يشبّه نفسه بأهل الحقّ اتجاه أهل الباطل. أمّا الجزء الأخير من العبارة [ولوْ كرِه الكافرون]، فهو جزء من ثلاث آيات، لكنّها لم تأتِ بعد كلام الغلبة الإلهية. آيتان خُتِمتا بهذه العبارة بعد إتمام النور. ففي سورة التوبة، الآية 32:[ يُريدونَ أنْ يُطفئوا نورَ اللَّه بأفواههمْ ويَأبَى اللَّه إلّا أنْ يُتمَّ نورَه ولوْ كَرِه الكافرون]. وفي سورة الصف، الآية 8: يُريدونَ ليُطفِئوا نورَ اللَّه بأفواههم واللَّه مُتمّ نورِه ولو كَرِه الكافرون]. وجاءت في سورة غافر، الآية 14، في سياق الإخلاص في الدعاء:[فادْعُوا اللَّه مُخلِصينَ لهُ الدِّينَ ولو كَرِه الكافرون].
سيف الإسلام رجل ذكيّ، وكان فيما مضى صاحب مبادرات وعلاقات. وكاد أن ينجح في تلميع وجه النظام، وإطالة عمره. وأثبت في سنوات السجن والمحاكمة والحريّة المقيّدة، أنّه قادر على المناورة بين الاتجاهات والمصالح المتناقضة
خلاصة الأمر أنّ نجل القذافي يتوسّل بالقرآن ضدّ خصومه، جاعلاً معركته السياسيّة والانتخابيّة معهم معركة حقّ وباطل، بالمعنى الدينيّ. وهو أمر ليس مفاجئاً تماماً، فسيف الإسلام يحاول التشبّه بوالده، وهو يخاطب جمهوراً متديّناً عموماً. والرئيس الراحل كانت له مواقف متناقضة من القرآن والسُنّة النبويّة، ومع ذلك كان قادراً على تلبّس الشخصيّة التي يريدها بحسب الظروف والمناسبات. ففي الملتقيات الكثيرة التي كانت تنظّمها اللجان الشعبيّة في الجماهيريّة، ويحضرها القذّافي الأب طبعاً، يُفاجأ المشاركون في لقاء الأحزاب اليساريّة العربيّة والأجنبيّة مثلاً، وفيهم ماركسيّون، بأنّ الزعيم يتحدّث إليهم كأنّه ماركسيّ أصيل. وفي ملتقى للعلماء والدعاة، يتحوّل الزعيم إلى ضليع في الشؤون الدينيّة والدعويّة (وهو ما شهدتُه في ملتقى خرّيجي كليّة الدعوة الإسلاميّة في طرابلس الغرب عام 1987. وكان المشاركون من بلدان شتّى). وفي ملتقى للمثقّفين، يتفاخر أمامهم بأنّه يقرأ يوميّاً ما يناهز سبع ساعات!
غموض المسار والمصير
المفاجئ حقّاً أنّ سيف الإسلام ما زال خارج المحاسبة بخلاف كلّ رموز النظام السابق، وأنّه في ظهوره العلني في مدينة سبها الجنوبية على بُعد 750 كلم من طرابلس الغرب، يستنسخ هندام والده الراحل، الذي كان على هذه الهيئة عندما حرّض أنصاره في طرابلس الغرب، إبّان ثورة 17 فبراير (شباط) قبل أكثر من عشر سنوات، على قتل المعارضين ومطاردتهم “زنقة، زنقة”.
وإذا كانت سِيَر أبناء القذّافي لا تخلو من طموحات وهوايات ومفارقات، وتتوزّع بين مجالات مختلفة، منها السياسة، والجيش، والاقتصاد، والأدب، والرياضة، إلا أنّ سيف الإسلام، وهو الابن الأوّل من الزوجة الثانية لمعمّر، صفية فركاش، هو الوحيد الذي بقي سالماً وحرّاً بقيود في ليبيا، ومعلوم الإقامة وسط قبيلة القذاذفة، مع غموض في المسار القضائي. فهو مُدان ومطلوب اعتقاله من المحكمة الجنائية الدولية حتى اللحظة لارتكابه “جرائم ضدّ الإنسانية” إبّان الثورة الشعبية، ومحكوم عليه بالإعدام لدى محكمة طرابلس الغرب عام 2015، ومعفوّ عنه من برلمان طبرق الذي يسيطر عليه اللواء خليفة حفتر، بقرار صدر بعد ساعات فقط من صدور الحكم القضائي.
وكانت كتيبة أبي بكر الصدّيق في الزنتان اعتقلته عام 2011، وبدلاً من تسليمه للحكومة الجديدة في طرابلس الغرب، أبقته عندها في الحفظ والصون، ولم تدعه يشهد محاكمته حضوريّاً. وفي عام 2017، أطلقت سراحه تنفيذاً للعفو البرلماني الصادر قبل سنتين. وانتقل من الزنتان إلى سبها. أمّا إخوته فبعضهم أحياء في المنفى القسري، وهم محمد والساعدي وعائشة، وأحدهم معتقل في لبنان منذ عام 2015، وهو هنيبال، والآخرون قتلى في ليبيا، وهم المعتصم وخميس وسيف العرب (كما يُعتقد).
خلافة مُجهَضة
وُلد سيف الإسلام عام 1972 في باب العزيزية، وهي القاعدة العسكريّة التي كان يتحكّم بها والده بليبيا. تخرّج مهندساً معماريّاً من جامعة الفاتح في طرابلس الغرب عام 1994. وحصل على الماجستير في الهندسة من معهد إيمادك Imadec في النمسا عام 2000. ونال شهادة الدكتوراه من معهد لندن الاقتصادي “London School of Economics” عام 2008، وعنوان أطروحته، الذي له مغزى يتعلّق بالدور الذي كان يستعدّ له خليفةً لوالده، هو “دور المجتمع المدني في إضفاء الطابع الديموقراطي على مؤسسات الحكم العالمي: من “القوة الناعمة” إلى اتخاذ القرارات الجماعية؟” (The role of civil society in the democratization of global governance institutions: from ’soft power’ to collective decision-making?). وشاعت أنباء عن تلقّيه مساعدة مباشرة في تحرير أطروحته، حتى إنّ جوزف ناي Joseph Nye، عالم السياسة الأميركيّ الشهير، قرأ أجزاء من أطروحة القذافي الابن، وقدّم نصائح له فيها.
صعد إلى سطح الأحداث بقوّة، عندما أسّس عام 1998 “مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية”، وهي منظمة دولية غير حكوميّة NGO. تولّت قضايا حسّاسة مثل قضية الجهاديين الفارّين من أفغانستان بعد سقوط نظام طالبان عام 2001، والإشراف على مراجعات الجهاديّين في السجون الليبيّة، ومعالجة قضيّة حقن مئات الأطفال الليبيّين بالإيدز عام 1998، والحُكم على خمس ممرّضات بلغاريّات وطبيب فلسطيني بالإعدام في هذه القضية، التي انتهت عام 2007 بإطلاق سراح المحكومين، وعقد صفقة سلاح مع فرنسا أيام الرئيس نيقولا ساركوزي، والتقارب مع الاتحاد الأوروبي.
إقرأ أيضاً: سيف الإسلام والإخوان.. مجاهدو “جون ماكين”
وفي عام 2009، سُمِح لمنظمة العفو الدوليّة و”هيومان رايتس واتش” بالمجيء إلى ليبيا، بوساطة “مؤسسة القذافي”، للاطّلاع على أوضاع حقوق الإنسان في ليبيا. ومع أنّ سيف الإسلام في تلك الحقبة وصل إلى ذروة الضوء، وكأنّه رئيس الوزراء الفعليّ، مع اقتناع المجتمع الدوليّ بقرب تسلّمه للسلطة بدلاً من والده، إلا أنّه في كانون الأول عام 2010، قبل أكثر من شهرين من اندلاع ثورة 17 فبراير (شباط)، أعلن توقّف مؤسّسته عن الاهتمام بالتغيير في ليبيا، وفي مراقبة حقوق الإنسان، واكتفاءها بتقديم المساعدات في البلدان الإفريقيّة جنوب الصحراء. وإبّان الثورة الشعبيّة، انحاز سيف الإسلام تماماً إلى والده، وهدّد الثوّار بعظائم الأمور، ومنها تقسيم ليبيا، وتوعّد أوروبا بانتشار الإرهاب، وموجات الهجرة غير الشرعيّة عبر ليبيا، فيما لو سقط النظام.
سيف الإسلام رجل ذكيّ، وكان فيما مضى صاحب مبادرات وعلاقات. وكاد أن ينجح في تلميع وجه النظام، وإطالة عمره. وأثبت في سنوات السجن والمحاكمة والحريّة المقيّدة، أنّه قادر على المناورة بين الاتجاهات والمصالح المتناقضة. لكن كيف تخيّل للحظة أنّ بمقدوره استعادة الفرصة الضائعة في زمن مختلف تماماً، وهو مطارَد جنائيّاً على المستوى الدوليّ، ولا يمثّل وحدة ليبيا الآن بأيّ شكل؟