في المعركة القضائية ذات البعد السياسي المفتوحة على مصراعيها، بانتظار الوصول إلى صفقة أو تسوية قد تكون شاملة أو جزئية، بين آلية التحقيق التي يعتمدها القاضي طارق البيطار في قضية تفجير مرفأ بيروت، وبين التشكيلات القضائية وبين إعادة تفعيل عمل مجلس الوزراء، تكمن نقطة أساسية لا تزال خفيّة أو لا ينتبه إليها أحد، وهي استشراس حزب الله في التعاطي مع هذا الملف.
فالحزب لن يقبل بتوجيه أيّ اتهام له في قضية تفجير المرفأ، وهذا مفهوم ومعروف ومعلن. والحزب كما حركة أمل لا خشية لديهما على علي حسن خليل أو يوسف فنيانوس أو غازي زعيتر. الخشية الأكبر لدى الحزب تبقى على رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب. ولطالما خرج الأمين العامّ لحزب الله حسن نصر الله مدافعاً عن دياب لتوفير الحماية له.
هناك ثوابت في لبنان لا مجال للقفز فوقها، خصوصاً أنّ معادلات كثيرة ترتبط بسياقات إقليمية ودولية هي التي تحكم التطوّرات اللبنانية. وهذه ستكون مؤشّراً إلى المرحلة المقبلة في أيّ استحقاق انتخابي، سواء في رئاسة الجمهورية أم في الانتخابات النيابية
هذه هي النقطة الأساسية التي يلتقطها حزب الله ولا يلتقطها السنّة الساعون للوصول إلى المناصب ولو على حساب الثوابت أو ما تبقّى من دولة ومؤسسات ومواقع دستورية. وما ينطبق على السُنّة أصبح ينطبق على المسيحيين أيضاً. إذ إنّ ما يخشاه الحزب هو القدرة على محاسبة حسان دياب لتخلّفه عن زيارة المرفأ. وهو الذي ارتضى لنفسه أن يأتي على رأس حكومة أسهمت في المزيد من التدهور والانهيار السياسي والمالي والاقتصادي لتلبية رغباته وشهواته وتنفيذ مشروع الحزب. وقد جاء دياب بأكثريّة موصوفة رعاها الحزب، وكان هدفها الاقتصاص من الطبقة السياسية والانتقام من الجميع. وفي هذا الصدد، على كلّ مَن يتعاطى الشأن العامّ أن يتمعّن جيّداً بالمصير الذي انتهى إليه دياب: رئيس حكومة مستقيل، منبوذ داخلياً ودولياً، وملاحَق قضائياً.
منع التحالف مع الحزب
تلك الصورة لا يريد الحزب تكريسها أبداً، لأنّها ستشكّل خطّاً عريضاً يؤسّس لامتناع أيّ شخصية سياسية فيما بعد عن الانخراط في أيّ لعبة سياسية يقودها الحزب نفسه. لأنّ المصير سيكون وخيماً، فيما لن يتمكّن الحزب من توفير الغطاء اللازم والحماية المطلوبة. هذا على الصعيد السنّيّ، الذي له ما يقابله مسيحياً، بالنظر إلى عهد الرئيس ميشال عون ومآلاته والوصول إلى الأشهر الأخيرة منه، وهو عهدٌ لم يكن سوى عهد للدمار والانهيار والتشرذم، وخسارة لبنان لمقوّمات البقاء ولِما تبقّى من قواعد اللعبة السياسية القائمة على التنوّع. إذا أصبحت تلك الصورة عن حزب الله راسخةً، فإنّ أيّ طرف يتحالف معه في سبيل الوصول إلى السلطة سيكون مصيره العزل الداخلي والدولي.
في عهد ميشال عون، وهو العهد الذي يعتبره حزب الله أحد أبرز انتصاراته اللبنانية وتجلّياتها، انهار كلّ شيء في لبنان، وخسر المسيحيون كلّ مقوّماتهم وكلّ القطاعات التي ارتكز عليها الاقتصاد اللبناني أو امتازت بها الفرادة اللبنانية، من القطاع المصرفي، إلى المؤسسات التعليمية والصحّية، وصولاً إلى تفجير المرفأ، بالإضافة إلى تعايش المسيحيين مع اغترابهم عن جزء واسع من ثقافتهم وتاريخهم الانفتاحي لحساب طروحات تتعلّق بالانغلاق أو الانعزال أو الافتراق عن الغرب والذهاب نحو الشرق. والأخطر على المسيحيين هو أن يكون هذا الدمار كلّه قد حلّ بنتيجة وصول ما يُعرف بـ”الرئيس القوي” إلى بعبدا.
والخلاصة الأوسع في ذلك أنّه لا يمكن لأيّ تركيبة سلطوية يعمل حزب الله على إنتاجها وتكوينها أن تتمكّن من الحكم في لبنان، وتتميّز بالقدرة على استنهاض الواقع اللبناني الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة إلى الحفاظ على الديموقراطية السياسية. فقد أصيب عهد ميشال عون بالكثير من النكبات منذ وصول الرئيس إلى بعبدا.
ثوابت تاريخية في لبنان
هناك ثوابت في لبنان لا مجال للقفز فوقها، خصوصاً أنّ معادلات كثيرة ترتبط بسياقات إقليمية ودولية هي التي تحكم التطوّرات اللبنانية. وهذه ستكون مؤشّراً إلى المرحلة المقبلة في أيّ استحقاق انتخابي، سواء في رئاسة الجمهورية أم في الانتخابات النيابية.
كان السُنّة أكثر مَن دفع ثمن السياسات التي اعتمدوها، سواء كانوا من خصوم حزب الله أم من حلفائه. لنا في حسان دياب أبرز مثال. ولنا في نجيب ميقاتي مثال أوضح، في المرحلة الأولى التي جاء فيها رئيساً لحكومة القمصان السود ونُفِّذ الانقلاب على التوازن السياسي في البلد عام 2011، فانتهى مستقيلاً بمصير واضح، واحتاج إلى جهود طويلة على مدى سنوات لاستعادة حيثيّته. وما إن استعادها حتى عاد رئيساً لحكومة تلقّت ضربة قاصمة من قبل حزب الله بتشعّبات متعدّدة أدّت إلى وأد الحكومة قبل انطلاقتها. يجسّد ميقاتي مرحلة التحوّل أو الانتقال من المشارك في مشروع حزب الله عام 2011، إلى اختيار نهج الوسطية والتقارب مع الشخصيات السنّيّة الأخرى، وفي كلتا الحالتين دفع الثمن.
إقرأ أيضاً: اتصالات الساعات الأخيرة: ماذا جرى بين برّي وميقاتي؟
أمّا خصوم حزب الله من الذين عقدوا التسويات معه والتفاهمات انطلاقاً من اعتماد سياسة التنازلات والتغاضي عن العنوان السياسي الواضح، فكانت تجربة الرئيس سعد الحريري هي المثلى في هذا الإطار، حيث كان عرّاب التسوية الرئاسية التي كرّست اختيار حزب الله لرئيس الجمهورية، والفوز بالأكثرية النيابية، والتحكّم بتشكيل الحكومة وقراراتها وسياستها الخارجية، فكان مصيره الاستقالة والغياب عن الساحة والمشهد. هذا الدرس الذي أيقنه حزب الله، لا يريد لأحد آخر أن يوقنه أو يتلمّسه، لذلك يصرّ الحزب على الإطاحة بأيّ متنفّس سياسي أو قضائي حتى لا يجعل الخوف يسيطر على أيّ شخصية تسعى إلى العمل السياسي معه مستقبلاً.