أيام العزّ، يوم كان سعر صرف الدولار بـ1500 ليرة لبنانية. كنّا نقصد بائع الحلويات لشراء كيلو بقلاوة، وكان البائع على غرار جميع الباعة يفيض كرماً فيقدّم لزبائنه ضيافة، عبارة عن حبّة بقلاوة أو حبّتين، وذلك من باب حسن الاستقبال أو من أجل تصويب الخيارات، أو لإطلاعهم على أصنافه وابتكاراته الجديدة في صناعة الحلويات.
بات اليوم سعر كيلو البقلاوة، الذي يراوح عدد حبّاته بين 35 و40 حبة، قرابة 370 ألف ليرة (القابلة للأكل طبعاً)، وهذا يعني أنّ الحبّة الواحدة أصبح سعرها قرابة 10 آلاف ليرة، ويعني أيضاً أنّ “حبّتي الضيافة” اللتين تحدّثنا عنهما أعلاه، سعرهما اليوم نحو 20 ألفاً، وأنّ هذه العادة أمست خسارة محتّمة على بائع الحلويات وجب الإقلاع عنها… وهكذا حصل.
تكشف المصادر أنّ سعر صرف الـ100 دولار الزرقاء (الجديدة) هو 60500 ريال يمني، فيما المئة البيضاء القديمة سعرها 59 ألف ريال، أي بفارق 1500 ريال يمني أو نحو 2.5 دولار
قد يسأل القارىء: ما علاقة البقلاوة بالدولارات؟
تعالوا أخبركم.
يمكن تشبيه البقلاوة بالدولارات القديمة تماماً، وذلك للتأكيد أنّ هذه الأزمة هي أزمة حقيقية، بل أزمة باقية، وقد تتمدّد في المقبل من الأيام، وذلك إلى حين التخلّص من جميع الدولارات القديمة في السوق، إذا أمكن.
وبخلاف ما يُقال، فإنّ هذه أزمة لن توقفها بيانات السفارة الأميركية أو مصرف لبنان، ولا حتى جمعية المصارف أو بيان نقابة الصرّافين الذي صدر أخيراً. بل هي أزمة تقنيّة تتعلّق بسير عمل شركات شحن الأموال، التي كانت تشحن كميّات كبيرة من الأموال تخطّت مئات ملايين الدولارات في السنوات الماضية، وذلك يوم كانت المصارف تفيض خزائنها بالدولارات القديمة والجديدة، ويوم كانت حركة دخول الأموال الساخنة (أموال الاستثمارات) والإيداعات في أوجها.
كان دفق الأموال وارتفاع منسوب حركتها بين الداخل والخارج يُترجمان، في طبيعة الحال، زيادة بديهيّة في الحاجة إلى شحن الأموال من الداخل إلى الخارج والعكس أيضاً. في حينه كانت شركات الشحن تأخذ الأموال بقديمها وجديدها، وتودعها في حساباتها المصرفية في الخارج، وكانت تُدخل الجديد منها عند طلب المصارف أو كبار الصرّافين أو غيرهم.
“الخوض في الصغائر”
كان فائض العمل ووفرة الدولارات في الماضي يدفعان شركات الشحن نحو التعفّف والامتناع عن “الخوض في الصغائر”. صغائر من صنف طلب بَدَلٍ لقاء استبدال الدولارات القديمة أو الممزّقة المهترئة بأخرى جديدة. لكنّ الأزمة أخذت في التفاقم والتوسّع منذ 17 تشرين الأول 2019، ومذّاك أخذ منسوب شحن الدولارات يخفّ ويتقلّص، لأنّ الداخل من هذه الدولارات إلى لبنان لا يكاد يكفي الاستيراد والتخزين في البيوت. ولهذه الأسباب ما عدا ممكناً تقديم هذه الخدمة للزبائن بالمجّان، تماماً كما لم يعد صانع الحلويات يقدّم “حبّة البقلاوة” لزبائنه مثلما كان يفعل في الماضي من باب المجاملة ومن دون أيّ احتساب للتكاليف.
تفيد المصادر أنّ آخر قرار أصدره المصرف المركزي الحوثي في صنعاء قضى بجعل الأولوية في التعامل للدولار الأبيض، وترك الأزرق الجديد للتخزين، وذلك من أجل ضبط الفرق بين السعرين، لكن حتى هذا القرار لم يُفلح
وبالتالي، فإنّ هذا كله دفع بشركات الشحن إلى إعادة النظر في الخدمات التي كانت تقدّمها لزبائنها، وخصوصاً للمصارف التي تتبنّى خطابين: الأوّل مع المواطنين فتقول لهم إنّ هذه الفئة من الدولارات مقبولة ولا لبس فيها، والآخر مع موظّفيها تنهاهم فيه عن قبض هذه الدولارات من العملاء، كي لا تتكبّد تكاليف الشحن على حسابها الخاص. فقد بادرت شركات الشحن إلى طلب بدل مالي لقاء تلقّي الدولارات القديمة.
تقول مصادر صيرفيّة لـ”أساس” إنّ هذا البدل هو “بين دولار واحد ودولار ونصف، وذلك بحسب شركة الشحن وبحسب العرض والطلب”. وقد فتح هذا الدولار، الذي تطلبه شركات شحن الأموال، شهيّة الصرّافين المعروفين بجشعهم الزائد، فأضافوا نسبة ربح خاصة بهم تفوق المعقول في بعض الحالات، فصاروا يحسمون من كلّ 100 دولار رقماً مقطوعاً ينخفض أو يرتفع بين صرّاف وآخر (من 2 إلى 10 دولارات).
لكن بعيداً عن هذا كلّه، فإنّ البحث الأعمق والتمحيص يقوداننا إلى ما هو أبعد من الحدود اللبنانية، فيظهر أنّ هذه الأزمة ليست جديدة وغير محصورة بالداخل اللبناني فقط، وإنّما تطول غالباً الاقتصادات المنهكة والمفلسة، كتلك التي باتت تُحسب زوراً على محور الممانعة، مثل قطاع غزّة ولبنان والعراق وسوريا واليمن.
من العراق إلى غزّة واليمن وسوريا
ففي بحث بسيط على الإنترنت، تكتشف أنّ أزمة الدولارات القديمة والجديدة ضربت العراق العام الفائت، حيث عمد العراقيون إلى بيع الدولارات القديمة بأسعار تقلّ عن قيمتها الحقيقية في السوق. وهناك كذلك، أكّد المصرف المركزي العراقي جواز التداول بجميع الفئات من عملة الدولار ما دامت أصليّة وغير مزيّفة، وأنّ عدم تعامل الصرّافين العراقيين بهذه الفئات القديمة “أمر غير مبرّر”.
وعانى قطاع غزة أيضاً من هذه الأزمة في العام 2018، وذلك يوم توقّفت المصارف في القطاع عن أخذ الدولارات القديمة في عمليات الإيداع، لكنّها في المقابل كانت تدفع هذه الدولارات نفسها للزبائن. عزا الخبراء الاقتصاديون سبب ذلك إلى إغلاق المعابر ومنع الحركة والسفر لأوقات طويلة، وإلى “رفض إسرائيل إدخال العملة الجديدة وأخذ الدولارات القديمة”. فكان الصرّافون هناك يحسمون بين 1 و5 شيكلات مقابل كلّ 100 دولار قديمة. وإذا كانت ورقة العملة مهترئة أو مصابة بتلف أو ممزّقة، كانوا يحسمون منها قرابة 20 شيكلاً، أي بين دولار وستة دولارات.
الأمر نفسه حدث في اليمن، إذ تكشف مصادر خاصة لـ”أساس” أنّ هذه الأزمة ضربت اليمن في العام 2019، وما زالت موجودة إلى اليوم، على الرغم من تشديد المصرف المركزي التابع لجماعة الحوثيين في صنعاء على أنّ الدولارات الأميركية القديمة لا ريب فيها، وهي قابلة للتداول، لكنّ ذلك لم يقنع الناس ولا حتى الصرّافين والمصارف.
وتكشف المصادر أنّ سعر صرف الـ100 دولار الزرقاء (الجديدة) هو 60500 ريال يمني، فيما المئة البيضاء القديمة سعرها 59 ألف ريال، أي بفارق 1500 ريال يمني أو نحو 2.5 دولار.
وتفيد المصادر أنّ آخر قرار أصدره المصرف المركزي الحوثي في صنعاء قضى بجعل الأولوية في التعامل للدولار الأبيض، وترك الأزرق الجديد للتخزين، وذلك من أجل ضبط الفرق بين السعرين، لكن حتى هذا القرار لم يُفلح.
إقرأ أيضاً: جنون الدولار: سلامة يوزّع الخسائر “بالسرّ”
أمّا في سوريا فالأمر خجول أكثر لأنّ التداول بالدولار في مناطق سيطرة نظام بشار الأسد ممنوع. لكنّ المصادر تكشف لـ”أساس” أنّ في شمال سوريا حيث السيطرة التركية، نجد تمييزاً بين الدولار الجديد الذي يسمّونه “دولاراً لايزرياً” والدولارات القديمة. لكنّ الأمر لم يخلق أزمة حسم من قيمة القديم على حساب الجديد، وذلك لأنّ مناطق الشمال السوري مفتوحة على الداخل التركي الذي يتعامل بالعملتيْن، ولا يعاني من أزمة دفق نقدي، أقلّه حتى اللحظة.
في المحصّلة، نستنتج أنّ هذه الأزمة بديهية، فلا هي شائعة ولا مفتعَلة. هي نتيجة حتمية لكلّ نظام اقتصادي مفلس آيل إلى الانهيار مثل النظام الاقتصادي اللبناني، حيث الدولارات الداخلة باتت معدودة أمام الدولارات الكثيرة الخارجة. لبنان الذي كان ذات يوم منارة لمحيطه العربي، وقبلةً للمودعين العرب والمضطهَدين الباحثين عن ملاذٍ يوفّر لهم الحرية السياسية والاقتصادية، وأمسى اليوم دولة تابعة وخاضعة لـ”محور مفلس”، يمصّ دماء كلّ مَن يلتصق به، لكنّه لا ينفكّ يتحدّث عن الانتصارات والإنجازات!