المنطقة بعد قمّة الخليج لن تكون كما قبلها

2021-12-16

المنطقة بعد قمّة الخليج لن تكون كما قبلها

يمكن تسمية القمّة الخليجية الـ 42، التي عُقِدت يوم الثلاثاء الفائت (14 كانون الأوّل)، بـ”قمّة مواجهة التهديدات والتحدّيات”. فالبيان الختامي للقمّة أكّد أنّ “أيّ اعتداء على أيّ منها هو اعتداء عليها كلّها، وأيّ خطر يتهدّد إحداها يتهدّدها جميعاً”، بحسب ما تضمّنته المادة الثانية من اتفاقية الدفاع المشترك بين دول مجلس التعاون الخليجي. وجدّد البيان تأكيد “ما نصّت عليه الاتفاقية بشأن التزام الدول الأعضاء بالعمل الجماعي لمواجهة كلّ التهديدات والتحدّيات”.

وكان قد سبق القمّةَ اجتماعٌ على مستوى وزراء الخارجية، بمشاركة وزير خارجية مصر. عقب الاجتماع صرّح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أنّ الاجتماع “استعرض الملفّات المتعلّقة بأمن المنطقة والتحدّيات التي تواجهها”. من جهته، قال سامح شكري، وزير الخارجية المصريّ، إنّهم ناقشوا “التطوّرات والقضايا الإقليمية والدولية، والتحدّيات التي تواجه الأمن القومي العربي، وجرى التوافق في الرؤى حيال التعامل مع كلّ هذه التحدّيات”.

ليست المواجهة بعد القمّة الخليجية الأخيرة إنشاءً كالذي اعتدنا سماعه في الخطابات العربية منذ عقود. إنّها فعليّة. وقد بدأت. لذلك نعتقد أنّ المنطقة بعد قمّة الخليج لن تكون كما قبلها

سبق القمّة والاجتماع المذكورين أعلاه جولةٌ لوليّ العهد السعودي شملت 5 دول خليجية، هي عُمان والإمارات وقطر والبحرين والكويت هدفها تحصين “الجبهة الخليجية” في “مواجهة التحدّيات”.

فما هي هذه التحدّيات التي تواجهها دول الخليج، ومعها مصر؟

1- التحدّي الإيراني هو الأوّل، من دون أدنى شكّ. لكنّه ليس الوحيد على خلاف ما يظنّ بعض المتابعين للمنطقة وسياساتها وصراعاتها. يعود هذا التحدّي الإيراني إلى ثمانينيّات القرن الماضي. وأصبح أكثر خطراً مع بداية القرن الحالي. فكما أصبح معروفاً فإنّ وصول بشار الأسد إلى السلطة في سوريا فتح الطريق واسعاً للنفوذ الإيراني في سوريا وفي لبنان. وسقوط نظام صدام حسين في العراق فتح الطريق عريضاً لبسط النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين. وهكذا تحقّق “الهلال الشيعي”. حدث كلّ ذلك في ظلّ تراجع الدور العربي الذي خلق فراغاً استغلّته إيران إلى الحدّ الأقصى. فقد أسّست ميليشيات، ودرّبتها وسلّحتها حتى أصبحت أقوى من الأنظمة والدول. وطوّرت مشروعها النووي الذي يهدف بشكل أساسي إلى تهديد العالم للتسليم بنفوذها في المنطقة العربية. وسرّعت فيه منذ بداية القرن الحالي. واستغلّت فترة المفاوضات مع دول الـ5+1، وفترة انسحاب واشنطن من الاتفاق خلال ولاية دونالد ترامب في البيت الأبيض)، لرفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى درجة خطيرة.

2- استمرار المنطقة العربية ساحة صراع إقليمي ودولي. والغائب الأكبر عنها الدول العربية! لنبدأ من الشمال:

– في سوريا، اللاعبون هم الأميركيون والروس والإيرانيون والأتراك.

– في العراق، واشنطن وطهران وأنقرة لاعبون أساسيون أيضاً.

– في اليمن، إيران لاعب أساسي بسبب دعمها الحوثيّين ضدّ السلطة الشرعية المعترف بها دولياً. في ليبيا، هناك خليط من لاعبين أوروبيين وأميركيين وروس وأتراك.

– أمّا لبنان فهو تحت احتلال إيراني بواسطة حزب الله.

– ويجب عدم استثناء إسرائيل التي يتنوّع الدور الذي تلعبه بعد “اتفاقات إبراهيم”. فهو دور عِدائي ضدّ بعض الدول العربية، التي تستمرّ إسرائيل في ضرب مواقع عسكرية فيها (خاصة سوريا). وهي صديق وحليف لدول أخرى تُبرم معها اتفاقيات اقتصادية وتجارية وتكنولوجية… وربّما فيما بعد عسكرية.

– دول الخليج ومصر ليست بمنأى عن كلّ هذه الصراعات. أوّلاً، انطلاقاً من أنّ العالم العربي هو عالم جيوسياسي واحد تتأثّر دوله بعضها بالبعض الآخر بشكل مباشر. وثانياً، لأنّ كلّ هذه الصراعات والحروب تهدّد الأمن القومي لكلّ الدول العربية.

“العمل الجماعي” بين دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية، ومعها مصر، سيتوسّع فعليّاً بعد جولة وليّ العهد السعودي الأخيرة

3- انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من صراعات المنطقة: ما يشكّل تهديداً وتحدّياً كبيرين لدولها، وفي مقدّمها دول الخليج. فاتفاق “كوينسي” (1945) الأميركي – السعودي الذي قام على معادلة “الأمن مقابل النفط”، أمّن استقراراً لشبه الجزيرة العربية. لكن اليوم لم تعد هذه المعادلة صحيحة. هناك سببان رئيسيّان يهدّدان بإلغاء الاتّفاق الساقط عمليّاً:

أ- التهديد الأمني، الذي تشكّله إيران ضدّ دول الخليج، ببرنامجها النووي وصواريخها الباليستية وميليشياتها في المنطقة، وكلّ هذا لم تردعه واشنطن. فالاتفاق النووي (2015)، لو استمرّ، كان سيوقف تخصيب اليورانيوم في إيران لبضع سنوات. ودول الخليج، الغائبة عن طاولة المفاوضات، في حين أنّها معنيّة بها بشكل مباشر، لا تثق بكون الطرف الأميركي يأخذ مصالحها وأمنها القومي بعين الاعتبار في أيّ اتّفاق جديد. إضافة إلى أنّ برنامج الصواريخ والنفوذ الإيراني في المنطقة سقطا عن طاولة المفاوضات.

ب-  لم تعد الولايات المتحدة الأميركية أكبر مستورد لنفط الخليج. فهي غدَت أكبر منتج للنفط في العالم بعدما طوّرت تقنيّات استخراج النفط الصخري. وفي مرحلة قريبة ستصدّره. هذا لا يعني أنّها لم تعد تهتمّ لنفط الخليج. لكنّ اهتمامها به أصبح ينحصر بالسيطرة على احتياطاته، ومراقبة وجهة تصديره. وهذا ما تقوم به أساطيلها في البحار والمحيطات.

4- الأمن القومي لدول الخليج: الحفاظ عليه لم يعد يقتصر على حماية الأنظمة وتأمين الملاحة في مضيقَيْ هرمز وباب المندب لعبور ناقلات النفط والغازف. مع التحوّلات الاقتصادية الاستراتيجية التي حدثت وتحدث في هذه الدول، بخاصة السعودية والإمارات، أصبحت مواجهة التهديدات الأمنيّة أكثر تعقيداً، لأنّ من شأن أيّ تهديد أن يؤدّي إلى تأخير التطوّر الاقتصادي الذي تشهده هذه البلاد، وعرقلة الاستثمارات الأجنبية فيها وتأخيرها. وتنعكس تأثيرات ذلك، ليس على سعر برميل النفط فقط، بل وعلى قطاعات كثيرة، أبرزها السياحة (بخاصة في دبي).

5- المناخ: التهديد والتحدّي الأخيران هما على مستوى العالم. إنّه تهديد التغيّر المناخي وارتفاع حرارة الأرض وتحدّي الانتقال إلى الطاقات المتجدّدة التي تتطلّب تنسيقاً وتعاوناً ليس بين دول الخليج فحسب، إنّما بين دول الشرق الأوسط كلّها، كجزء من التنسيق والتعاون على مستوى العالم. وقد التزمت دول الخليج، في مؤتمر باريس للمناخ (2015)، مع غالبيّة دول العالم، الحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة عبر الانتقال إلى الطاقات المتجدّدة. وأُطلِقت مشاريع كبرى في هذا المجال. ففي السعودية يتمّ تشييد أكبر حقل لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية في العالم بقدرة إنتاجية ستبلغ 200 غيغاواط في 2030. ومنطقة “نيوم” ستكون أوّل منطقة في العالم تحصل على الكهرباء من الطاقة المتجدّدة (الشمسية والهوائية). وفي أبو ظبي تمثّل مدينة “مصدر” نموذجاً على مستوى التغذية بالطاقة المتجدّدة. ولأنّ مكافحة التلوّث والحفاظ على البيئة هما قضية إقليمية وعالمية أيضاً، كانت هذه القضيّة حاضرة بقوّة في القمّة الأخيرة لمجلس التعاون الخليجي، التي شدّد بيانها على التعاون لتطبيق نهج الاقتصاد الدائري للكربون ومكافحة التلوّث، إضافة إلى مبادرة الشرق الأوسط الأخضر التي أطلقها وليّ العهد السعودي، وغير ذلك من خطوات.

إقرأ أيضاً: لبنان في قمّة الخليج الـ42: راجعوا نصّ جولة بن سلمان

التهديدات خطيرة والتحدّيات كبيرة، فهل تنجح دول الخليج؟

لا خيار آخر أمامها. فوجود جيل جديد من القيادات الخليجية الشابّة والطموحة والساعية بتصميم إلى إحداث تغيير في جيوسياسات دولها يعِد بذلك. ويبدو أنّ هذا الجيل قد تعلّم من تجربة أسلافه. فهو لن يترك المنطقة العربية وقضاياها لفراغ قد تستغلّه القوى الإقليمية، غير العربية، والعالمية لبسط نفوذها.

و”العمل الجماعي” بين دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية، ومعها مصر، سيتوسّع فعليّاً بعد جولة وليّ العهد السعودي الأخيرة. وليست المواجهة بعد القمّة الخليجية الأخيرة إنشاءً كالذي اعتدنا سماعه في الخطابات العربية منذ عقود. إنّها فعليّة. وقد بدأت. لذلك نعتقد أنّ المنطقة بعد قمّة الخليج لن تكون كما قبلها.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

باسيل يُطلِق “الجِهاد” إلى الانتخابات: برّي بيَد والحزب بيَد!

بعدما وازن النائب جبران باسيل طوال أشهر الصراع في غزة واشتعال الجبهة الجنوبية بين التمسّك بالخيار الاستراتيجي في التموضع ضدّ العدوّ الصهيوني والوقوف إلى جانب…

زحمة دبلوماسيّين في الضاحية: ماذا يريد الحزب وكيف يفكّر؟

تشهد الضاحية الجنوبية هذه الأيام هجوماً دبلوماسياً متعدّد الاتّجاهات من دول عربية وغربية وآسيوية. إذ يقوم عدد من الدبلوماسيين من هذه الدول بزيارات مكثّفة لضاحية…

سؤال معلّق بين الحزب و”المقاومة الغزاوية”… ماذا لو توقّفت الحرب؟

لم يعد بعيداً احتمال وقف الحرب الإسرائيلية على غزة. إسرائيل وحماس على وشك التوصّل إلى اتفاق يضمن وقف إطلاق النار لفترة أربعين يوماً والإفراج عن…

بارولين… هل لمّح لفرنجيّة بالانسحاب؟

معلوم عن دبلوماسية الفاتيكان أنّها هادئة لا تدخل في زواريب الخلافات السياسية في أيّ بلد كان. إنّما ترسل إشارات باتّجاهات معيّنة تراها للمصلحة العامة ولمصلحة…