مسيَّرات تركيّة للعراق: مقدّمة لتحالف سياسي؟

مدة القراءة 8 د

نجحت تركيا في السنوات الأخيرة في تحديث وتطوير الكثير من أسلحتها الدفاعية والهجومية، وكان أهمّها الطائرات المسيَّرة التي دخلت في منافسة واسعة مع أهمّ منتجي ومصدِّري هذا النوع من السلاح، مثل أميركا وإسرائيل والصين.

اُستُخدمت المسيّرات التركية في 3 مناطق صراعات عام 2020، وساهمت في تغيير مجرى المعارك هناك. ودفعت هذه النجاحات العديد من الدول إلى مراجعة سياساتها العسكرية الدفاعية وبرمجة موازناتها باتجاه شراء هذا النوع من الأسلحة الفعّالة والأقلّ كلفة بالمقارنة مع مقاتلات وطائرات ومنظومات دفاعية هجومية تقوم بالمهامّ نفسها تقريباً. وإلى جانب طلبات بعض العواصم العربية للحصول على هذه الطائرات، تحرّكت بعض دول أوروبا الشرقية، التي كانت تدور في الفلك السوفياتي، لتفاوض تركيا على شراء هذه المسيّرات لاستخدامها في ترسانتها الحربية، ومنها صربيا وبلغاريا والمجر ورومانيا. وبذلك تصبح تركيا، خلال أقلّ من 5 سنوات، أحد أبرز منتجي الطائرات المسيّرة المسلّحة في العالم التي تنافس الطائرات الأميركية والإسرائيلية والصينية في هذا المجال.

الجديد والمهمّ في هذا الخصوص هذه المرّة كان إعلان وزير الدفاع العراقي جمعة عناد سعدون، في أواخر شهر آب المنصرم، عن رغبة بلاده بشراء مسيّرات تركية محليّة الصنع من طراز “بيرقدار تي بي 2″، ومروحيّات وأسلحة متطوّرة تنتجها تركيا. وأشار الوزير العراقي إلى أنّه التقى بنظيره التركي خلوصي آكار على هامش معرض الصناعات الدفاعية “إيداف” في إسطنبول، وأنّ الجانب العراقي طلب من تركيا إعداد عروض وعقود بهذا الخصوص ليتمّ درسها والاتفاق عليها. وعلى ما يبدو فالقرار اتّخذه مجلس الوزراء العراقي بناءً على توصية من وزارة الدفاع. وفي حال إتمام الصفقة فستكون الأولى من نوعها بين العراق وتركيا في مجال تعاون عسكري من هذا النوع، إذ كانت أميركا وروسيا وفرنسا المزوّد الأول للعراق في بناء ترسانته العسكرية.

وكانت التفاهمات على الخطوط العريضة للصفقة قد تمّت خلال زيارة الوزير آكار للعراق في أواخر كانون الثاني المنصرم على رأس وفد أمني تركي رفيع، وبرفقة رئيس الأركان يشار غولر، بعدما ألغت بغداد الزيارة التي كانت ستتمّ في كانون الأول عام 2020 بسبب العمليّات العسكرية التركية المتزايدة في شمال العراق ضدّ مواقع مجموعات حزب العمّال، وعدم التنسيق المباشر مع الجانب العراقي.

لكنّ الاقتراح التركي المتعلّق بالصفقة قُدِّم فعليّاً إلى بغداد خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لأنقرة في 17 من كانون الأول، ثمّ زيارة وزير الدفاع العراقي للعاصمة التركية في 28 كانون الأول 2020، وطُرِح وقتئذٍ الكثير من التساؤلات عن توقيتها وأهدافها والملفّات المطروحة على طاولة النقاش بين الطرفين، وجرت توقّعات لِما بعد هذه الزيارة التي ساهمت في تهدئة التوتّر السياسي التركي العراقي، وحماية مسار العلاقات الاقتصادية والسياسية، والتأسيس لمشهد أمنيّ جديد في المرحلة المقبلة بين البلدين.

أسباب اقتصادية وتقنية

قرار العراق بالانفتاح على تركيا في صفقة مسيّرات “بيرقدار”، واحتمال أن تشمل الصفقة الأولى شراء 20 مسيّرة تتجاوز قيمتها 100 مليون دولار أميركي، والتراجع عن رغبته في شراء مقاتلات ميغ 29 الروسية، لم يكن سببه الشهرة الواسعة التي نالتها هذه الطائرات في المنطقة في الأعوام الأخيرة أو الضغوطات التي تعرّضت لها الحكومة العراقية من قبل الإدارة الأميركية لعدم الإقدام على خطوة من هذا النوع فحسب. بل ثمن الطائرات التركية الرخيص وقدرتها على التحرّك والمناورة في عمليّات متعدّدة المهامّ لحماية الأراضي العراقية. تُضاف إلى ذلك أسباب تقنيّة، كما يقول وزير الدفاع العراقي، حيث إنّ “المسيّرات التركية تحديداً تمتلك فعّالية ليليّة، وهي ميزة مهمّة في مواجهة المجموعات الإرهابية يحتاج إليها الجيش العراقي”.

مركز الثقل في العمليات العسكرية العراقية التركية في المرحلة المقبلة سيكون مدينة سنجار ومحيطها، وهي المنطقة التي تُعتبر خطّ إمدادٍ حدوديّاً لمجموعات حزب العمال التي تتنقّل عبر الحدود السورية العراقية والداخل التركي

كانت الخيارات الأمنيّة على الحدود التركية العراقية شبه محدودة حتى اليوم: إمّا أن تتحرّك القوات العراقية النظامية لحماية مناطقها الحدودية مع تركيا والقضاء على العناصر الأجنبية الموجودة داخل أراضيها، وليس عبر تحريك ميليشيات إيرانية إلى المنطقة لمواجهة القوات التركية، وإمّا أن تقبل بمواصلة أنقرة عمليّاتها العسكرية في قنديل وسنجار، وإمّا أن يكون هناك تنسيق أمنيّ عسكري تركي عراقي مشترك لمحاربة هذه المجموعات يتضمّن تزويد تركيا للقوات العراقية بالمعدّات والأجهزة والمعلومات التي تحتاج إليها في عمليّة من هذا النوع، ويبدو أنّ هذا ما حدث.

الواضح تماماً أنّ اللقاءات التركية العراقية على خطّ أنقرة – بغداد – أربيل ركّزت على تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، وزيادة التنسيق بشأن مكافحة عناصر حزب العمال الكردستاني ومجموعات داعش، وتقييد أنشطة هذه الوحدات عبر المثلّث الحدودي التركي العراقي السوري، وتبادل المعلومات والخدمات الأمنيّة والاستخبارية والعسكرية، وبحث سبل تسوية المشاكل المائية والسياسية العالقة بين البلدين من خلال الحوار، ومنها طريقة عمل المعبر الحدودي الجديد. لكنّ كلّ هذا الحراك السريع بين أنقرة وبغداد لا يمكن فصله عن مسألة وصول جو بايدن إلى السلطة وسياسته الشرق أوسطية، إلى جانب تطوّرات الملف الإيراني بشقّيْه العراقي والإقليمي.

يقول وزير الدفاع التركي إنّ “التهديد المشترك لتركيا والعراق من قِبل المجموعات الإرهابية هو واحد، ويتطلّب التنسيق والتعاون للقضاء على هذه العناصر”. لكنّ الدافع الآخر باتجاه صفقة من هذا النوع هي قناعات مشتركة بأنّ مصلحة بغداد وأنقرة، التي تشمل مصلحة أربيل أيضاً، هي التفاهم والتعاون السياسي والأمني داخل هذه البقعة الجغرافية الحدودية التي تحمل أهميّة كبيرة في المجال الاقتصادي لأنّها ممرّ لبيع النفط والمعبر الوحيد للتبادل التجاري مع العراق، ولوجود احتمال أن تلعب بغداد الدور الاستراتيجيّ المهمّ في نقل الطاقة والبضائع في إطار مشروع إقليمي متعدّد الجوانب.

مركز الثقل في العمليات العسكرية العراقية التركية في المرحلة المقبلة سيكون مدينة سنجار ومحيطها، وهي المنطقة التي تُعتبر خطّ إمدادٍ حدوديّاً لمجموعات حزب العمال التي تتنقّل عبر الحدود السورية العراقية والداخل التركي، والتي بدأت تتراجع باتجاه المدينة مستغلّة التوازنات العرقية والغطاء الغربي المقدّم للأقلّيات الأيزيدية هناك. في هذه المنطقة ستلعب المسيّرات التركية دوراً أساسيّاً في الرصد والتعقّب والمهاجمة وسط خارطة تفاهمات تركية عراقية جديدة.

هواجس تركيا

الأهمّ الآن هو طريقة تجاوز عقبة مهمّة، وهي غضب شركاء وحلفاء العراق الإقليميين، وعلى رأسهم إيران والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، بسبب إتمام صفقة من هذا النوع. وهي قد تتحوّل إلى فرصة تساهم في فتح صفحة جديدة من العلاقات التركية العراقية قابلة لأن تكون مقدّمة لتعاون سياسي اقتصادي إنمائي أوسع ينهي الكثير من الملفّات الخلافية.

الصفقة من الناحية العملية والمادية ستكون أفضل للعراق في مثل هذه الظروف التي يمرّ بها، إذ ستخرجه أوّلاً من أزمة تحديث وصيانة مقاتلات إف 16 التي لا يستخدمها، وثانياً ستجعله يدّخر ملايين الدولارت التي كانت ستُصرف على مقاتلات روسية تثير غضب واشنطن، وثالثاً ستبني له علاقات جديدة مع تركيا من خلال متطلّبات وضرورات التنسيق العسكري والأمني والاستخباري والتقني عبر دورات تجهيز وتشغيل وصيانة الطائرات وتدريب الكوادر العراقية العسكرية على تلك الطائرات في تركيا والعراق. وهي حالة جديدة من العلاقات بين البلدين بعد سنوات طويلة.

يبقى الهاجس التركي الأوّل، الذي تدرسه القيادات السياسية والعسكرية التركية قبل حسم موقفها، وهو النفوذ الكبير للميليشيات العراقية المحسوبة على إيران، والتي تتّهمها أوساط تركية بأنّها مسؤولة عن هجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة على قواعد تابعة للجيش التركي في شمال العراق. لكن ما يقلق أنقرة أكثر من غيره هو احتمال حصول إيران، صاحبة النفوذ الواسع في العراق، على التكنولوجيا التركية عبر حلفائها المحليّين، مثل الحشد الشعبي، بعد تسليمها لبغداد.

إقرأ أيضاً: تركيا – الإمارات: الإقليم أوّلاً

تركيا أيضاً أمام خيار صعب ودقيق بين الانفتاح على العراق أكثر فأكثر وخطورة تحويل هذا الانفتاح إلى فرصة أو مصيدة يستغلّها البعض ضدّها. لكنّ أنقرة في نهاية الأمر، وهي تحسم موقفها، ستأخذ حتماً بعين الاعتبار أنّه مع كلّ صفقة بيع مسيّرات تركية للراغبين كانت تسجّل اختراقاً استراتيجياً متعدّد الجوانب يتجاوز أن يكون عمليّة بيع وشراء لمعدّات عسكرية يحتاج إليها الطرف الآخر فحسب. هذا ما جرى مع الدوحة وباكو وطرابلس الغرب وكييف أخيراً، فلماذا تختلف الأمور في الصفقة المرتقبة مع العراق؟

بغداد أيضاً، الجالسة بين طهران وواشنطن في أكثر من ملفّ حسّاس وشائك، قد تدفع الداخل العراقي عبر خطوة استراتيجية من هذا النوع إلى القبول بتحوّل سياسي حقيقي في مسار العلاقات مع دول الجوار عبر خطط التنسيق والتعاون والانفتاح أكثر على أنقرة التي ستساعدها على التحرّر من الارتباط بالقرارات الأميركية والإيرانية عبر صفقة المسيّرات وما ستحمله من تنسيق عسكري وسياسي واقتصادي أوسع بين البلدين.

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…