من الآن حتى موعد الانتخابات النيابية “المُفترض” يبدو الداخل اللبناني مفتوحاً على كلّ الاحتمالات… السوداوية. وآخر نماذج التوتّر خروج الرئيس نجيب ميقاتي صاحب “الأعصاب الباردة” عن طوره، ملوِّحاً للمرّة الأولى منذ تعيينه رئيساً للحكومة بضرب يده على الطاولة وقول “كفى” عبر تقديم استقالته، متسائلاً في الوقت عينه في تقرير خاص نشره الموقع الإلكتروني التابع له: “هل يتحمّل وضع البلد خطوة من هذا النوع؟!”.
وفي مقابل تأكيد محيطين برئيسيْ الجمهورية والحكومة أنّ “الوضع أكثر من ممتاز” بين الرجلين، ويحكمه الاحترام والتنسيق، يَشعر رئيس الحكومة بأنّ ثمّة مَن يجلس خلف كرسيّ الرئاسة الأولى ليُدير العلاقة بين الرئيسين ويأخذها صوب الخيار الصداميّ.
ترى أوساط ميقاتي أنّ “هناك مَن يضع العصيّ في دواليب الجهود القائمة لإعادة الأمور إلى طبيعتها مع دول مجلس التعاون الخليجي
وعلى الرغم من “تبشيره” الدائم بقرب الوصول إلى حلّ للأزمات المتناسلة، يتّهم ميقاتي “الحلقة الضيّقة” لرئيس الجمهورية بتخريب العلاقة مع بعبدا، وعرقلة جهوده لإيجاد حلّ للأزمة، وصولاً إلى الإشارة إلى “سابقة غير أخلاقية” تمثّلت في تسريب معلومات رسمية عن الاجتماع الأخير بين الرئيسين، “من دون استئذان رئيس الحكومة الذي امتنع عن التصريح بعد الاجتماع”.
في مقلب الداعمين لعون اتّهامات مباشرة لميقاتي بـ”استغلال مرحلة التعطيل لتعزيز شبكة علاقاته مع الخارج، من موقعه رئيساً أصيلاً للحكومة، وإن كانت حكومته خارج الخدمة”، وبأنّه يراهن على أنّ الحلّ ليس داخلياً، بل ينتظر تبلور التفاهم الأميركي الإيراني وحسم المشهد اليمني. أمّا في الداخل فيعوّض ميقاتي بتكثيف عمل اللجان الوزارية، وعبر اللقاءات الثنائية التي تجمعه مع كلّ وزير على حدة، وحياكة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي “على السكت”.
وبعدما أُثيرت ضجّة حول إرسال رئاسة الجمهورية كتاباً إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء في شأن استبعاد مستشاريْ رئيس الجمهورية شربل قرداحي ورفيق حداد عن الاجتماعات مع وفد صندوق النقد الدولي، تفيد معلومات بأنّ هذا الملفّ كان حاضراً في الاجتماع الأخير بين عون وميقاتي في بعبدا، وما سُرِّب من مداولات عن هذا الاجتماع أثار غضب ميقاتي.
وكانت قناة “otv”، المحسوبة على العهد، أشارت إلى “اتفاق بين الطرفين على حضور الفريق الاستشاري لبعبدا الاجتماعات من الآن وصاعداً، وذلك بعدما اشتكى عون لميقاتي من التعتيم الكامل على مضمون 17 اجتماعاً تمّ عقدها في الفترة الماضية من دون وضع الرئاسة الأولى المعنيّة دستورياً بعقد الاتفاقات الدولية في صورة التفاوض مع IMF”.
وزاد في طين الأزمة بلّة إقرار رئيس الوفد اللبناني المفاوض الوزير سعادة الشامي بأنّه “ما حدا عندو محاضر. لا أنا عندي محاضر، ولا رئيس الحكومة، ولا أيّ حدا… ما فينا نضلّ نكتب محاضر لأن هيدي بتاخد كتير وقت”. وهو واقع وصفته مصادر قريبة من بعبدا بـ”الفاجعة في سياق التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ولا يعوّض عنه “وَعد” نائب رئيس الحكومة بزيارة رئيس الجمهورية أسبوعياً لإطلاعه على كلّ تفاصيل التفاوض”.
ربّما كبرى الأزمات تتجلّى في عدم التوافق حتى الآن على “المسلك” الذي سيقود إلى إجراء الانتخابات النيابية في موعده
لكنّ الحلقة المفرغة التي يغرق فيها الداخل اللبناني تشمل خضّات على أكثر من مستوى:
1- ضغط جبران باسيل الهائل على ميقاتي، وإحراجه شعبياً ودولياً وخليجياً، لدفعه إلى الدعوة لعقد جلسة فورية للحكومة. وهي خطوة غير واردة في أجندة رئيس الحكومة ما لم ينَل تعهّدات بأنّ الجلسة المقبلة لن تكون ممرّاً لتفجير حكومته من الداخل.
2- خطوط التوتّر العالي بين فريق باسيل وبين الثنائي الشيعي،وصولاً إلى حدّ قول نائب التيار أسعد درغام في حديث صحافي إنّه “في ظل الأزمة الخطيرة القائمة، حزب الله عم بكمّل علينا”.
وإذا كانت المعجزة وحدها تزيل المتاريس بين العونيين وبين الرئيس نبيه برّي، إلا أنّ العلاقة مع الحليف الأساس، حزب الله، تنحو أيضاً نحو مزيد من التشقّقات، ومن مظاهرها الضغط على ميقاتي لتوجيه الدعوة لالتئام مجلس الوزراء، “وليتحمّل الطرف الشيعي المسؤولية عن أفعاله”، أو الآثار السلبيّة التي خلّفها قرار وزير العمل بشأن عمل الفلسطينيين ومكتومي القيد، الذي قابله باسيل بـ”نَفَس” تهديديّ قائلاً: “هيك قصّة ما بتقطع”.
3- انهيار عامل الثقة بين فريق بعبدا – باسيل وبين جزء من وزراء الحكومة ورئيسها. وبات لسان حال “الباسيليّين” في الأيام الماضية: “لم يعد لنا أيّ حليف في معركتنا الكبرى قبل انتهاء العهد”. وقد وصل الأمر إلى حدّ التشكُّك في وجود مَن “اشتغل” على عدم اتصال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، غداة لقاء جدّة، بعون، واستثناء رئيس الجمهورية المحتمل من جدول زيارات الموفد الفرنسي بيار دوكان.
4- الأزمة المستجدّة بين ميقاتي وبين الثنائي الشيعي على خلفيّة المؤتمر الذي نظّمته جمعية الوفاق البحرينية المعارضة في بيروت. وهي أزمة دخل على خطّها وزير الداخلية بسام المولوي بإيعاز من ميقاتي، مؤكّداً مباشرة “وزارة الداخلية والأجهزة الأمنيّة التابعة لها التحقيق بشكل فوري في خلفيّات انعقاد المؤتمر، وجمع المعلومات عن المشاركين في المؤتمر تمهيداً لاتخاذ الإجراءات اللازمة بحقّ كلّ مَن يظهر تقصّده الإساءة من قلب العاصمة بيروت إلى أيّ دولة صديقة وشقيقة”.
وترى أوساط ميقاتي أنّ “هناك مَن يضع العصيّ في دواليب الجهود القائمة لإعادة الأمور إلى طبيعتها مع دول مجلس التعاون الخليجي”، مُعتبرةً أنّ “حزب الله يدمّر آخر الفرص المُتاحة لحليفه ميشال عون لتحقيق إنجاز ما بموازاة عرقلة العمل الحكومي والتسبّب بالمزيد من التضييق الخليجي على لبنان”.
5- وربّما كبرى الأزمات تتجلّى في عدم التوافق حتى الآن على “المسلك” الذي سيقود إلى إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، إن لجهة قرار المجلس الدستوري المنتظر في الطعن المقدّم من تكتّل لبنان القوي أو “المناخات” التي يُفترض أن تسبق إجراء هذا الاستحقاق.
كلّها مناخات بالغة السلبية تشي بأنّ النار تحت الرماد، فيما لا تزال مصادر أمنيّة تحذّر من انفلات الأمور ربطاً بالعجز الفاضح عن إيجاد حلّ للأزمات القائمة.
إقرأ أيضاً: هل يجرؤ ميقاتي على الدعوة لحكومة “بِمَن حضر”؟
في هذا السياق أتى تأكيد وزير الداخلية أنّه “لم يُرسل مرسوم الدعوة للانتخابات إلى رئيس الجمهورية حتّى الآن من باب اللياقة وحسن التصرّف، والسعي إلى الوصول إلى الحدّ الأدنى من التفاهم السياسي في البلاد والبعد عن المناكفات والنكد السياسي”، مشيراً إلى “رغبة رئيس الجمهورية في عدم إجراء الانتخابات إلا في أيار، وقد أكّد لي مراراً ذلك”. وقال إنّه “لن يستخدم صلاحيّاته بتحديد موعد الانتخابات في مرسوم رسمي إلى حين الاتفاق على الموعد مع رئيسيْ الجمهورية والحكومة”.