لا يمكن إغفال محطات جمعت نائب رئيس “تيار المستقبل” النائب الدكتور مصطفى علوش بالرئيس الشهيد رفيق الحريري في أثناء رواية سيرته.
في العام 1984، لم يعد طالب الطب مصطفى علوش قادراً على دفع القسط في الجامعة الأميركية، وخصوصاً بعد إصابة شقيقه توفيق أثناء الفوضى التي انتشرت في طرابلس، وازدياد التكاليف على عائلته بسبب اضطرارها إلى إرساله إلى فرنسا لأنّ حياته كانت مهدّدة. لكلّ هذه الأسباب قدّم علوش طلباً إلى “مؤسسة الحريري”، فأُعفي من قسط الفصل الأول في الجامعة الأميركية من دون أن يتّصل بأحد. لكن حُجبت عنه المساعدة في الفصل الثاني لأنّ أشخاصاً من طرابلس يعملون في مؤسسة الحريري عرقلوا طلبه بسبب علاقتهم السيّئة مع والده.
ساعدته خطيبته منى إسطا التي صارت زوجته وأمّ أولاده الثلاثة: محمد أستاذ في الولايات المتحدة الأميركية، طارق يعمل في الأمم المتحدة في بيروت، وفرح تتابع دراستها لنيل شهادة الدكتوراه في لويزيانا.
الاستراتيجية الدفاعية فعلينا ألا نعود إلى طرحها من جديد لأنّها ستكون مجرّد تسويف وتسويغ لاستمرار الحالة الشاذّة المسمّاة “مقاومة” زوراً
اعتبر الشابّ مصطفى علوش أنّ رفيق الحريري “رجل رأسمالي يريد شراء الناس بالشهادات”.
نال المنحة وقتذاك من دون أن تربطه أية علاقة سياسية بتيار رفيق الحريري. “بدأ اسم الحريري يلمع شيئاً فشيئاً، من دون أن أرى أيّ رابط قد يربطني به”.
في العام 1992، كان علوش في الولايات المتحدة الأميركية حين سمع أنّ الحريري صار رئيساً للحكومة. استبشر خيراً برجل “سيأتي إلى الحكم ولن يحتاج إلى أن يسرق الدولة”.
في العام 1993، عاد إلى لبنان إثر اعتداء إسرائيلي على الجنوب. “بدأت مرحلة نضالية صعبة بعدما عدت مفلساً. لم يكن أحدٌ مقتنعاً بي طبيباً، فكان لسان حالهم يسأل: مَن أنت وابن مَن؟ بدأت في مستشفى النيني وواجهت نوعاً من الاستهتار، فعملت في مستشفيات عكار، وبقيت أناضل لعامين تمكّنت فيهما من إثبات جدارتي وذاع اسمي، وعدت إلى طرابلس، حيث اشتغلت بشكل شبه مجاني”.
في العام 1994، قصد علوش مؤسسة الحريري لردّ المنحة التي حصل عليها. فوجئ المسؤولون في المؤسسة، وكان بلال حمد (رئيس بلدية بيروت الأسبق) رئيساً لجمعية الخرّيجين، فاتصل بعلوش وطلب منه أن يعرّفه على الرئيس رفيق الحريري. أعطاه الحريري موعداً في قصر قريطم عند الساعة السابعة والنصف صباحاً. “فوجئت بذلك كثيراً”. يقول لـ”أساس” عن لقائه الأول مع رفيق الحريري الأب: “كانت الطريق من طرابلس إلى بيروت قديمة وصعبة، فكان لا بدّ من الاستيقاظ باكراً في الرابعة فجراً للذهاب إلى العاصمة. وصلت إلى القصر الذي كان يعجّ بالناس وبالدبلوماسيّين. استقبلني الرئيس الحريري قرابة الساعة 8 و10 دقائق. وسألني بضعة أسئلة وأجبته بشيء من الوقاحة. قلت له: أنا جئت لأنّني أملت بك خيراً. وقلت له بأنّ طريقته تشبه طريقة الأمراء السعوديين. شرحت له الأسباب، فقال لي إنّها مرحلة وتنتهي، ثمّ ننتقل إلى دولة المؤسسات”. يضيف: “كنت في الـ35 في العمر، ثقافتي السياسية أميركية ولا أوقّر أحداً. فوجئ بي، لكنّه التزم الاحترام فلم يحرجني، غير أنّني شعرت أنّ كلامي لم يسقط برداً على قلبه”.
استمريت بالتعبير عن آرائي الشخصية، وقلت له إنّ “السياسيين اللبنانيين سيعتادون طريقته، وسيطلبون قبض أثمان عن كل أمر”. انتهى اللقاء على خير.
بدأ إعجاب مصطفى علوش بالحريري الأب يظهر حين بدأ يقوم بجولات في عواصم العالم مدافعاً عن لبنان، وخصوصاً بعد اعتداء إسرائيل على قانا الجنوبية في العام 1996. وأُعجب به أكثر حين رفض شروط التكليف في العام 1998.
كان علوش قد خاض الانتخابات البلدية ضدّ لوائح تيار المستقبل. “شكّلت لائحتي في العام 1998. خضت الانتخابات ضدّ “تيار المستقبل” وضدّ لائحة عمر كرامي، ونلت 3500 صوت. تفتّحت عليّ العيون مع أنّ لائحتي لم تنجح، لكنّها كانت قادرة على إحداث فارق لمصلحة إحدى اللائحتين لو تحالفت مع أحد الطرفين”. اتّصل به سمير الجسر وأحمد فتفت، وطلبا منه الانضمام إلى “تيار المستقبل”، وبدأ الاجتماع بكوادر التيار.
“سرعان ما ترقّيت من عضو مجلس قضاء إلى عضو مجلس محافظة فناشط، وصرت شخصية بارزة في تلك الفترة. في العام 2004، رشّحوني في الانتخابات البلدية، وحصدت أعلى عدد من الأصوات في طرابلس، وكنت عضو مجلس بلدي إلى أن استشهد رفيق الحريري. قبل استشهاده كنت ألتقي به دوماً، كان مميّزاً بثقته بنفسه وبالمستقبل وتفاؤله. كنت أقول له إنّك يا دولة الرئيس تواجه منظومة قاتلة ولم يكن يقتنع لأنّه كان متفائلاً جداً”.
بعدما نجح علوش في الانتخابات البلدية طلب منه الرئيس رفيق الحريري التهيّؤ للانتخابات النيابية في العام 2005، “فأجبته بأنّني لست مستعدّاً لذلك لأنّني أناضل من أجل بناء نفسي كجرّاح”.
بعد استشهاد الحريري، أعاد النظر في قراره، ولا سيّما أنّ خبر استشهاده في 14 شباط 2005 وقع كالصاعقة على علوش.
يروي لـ”أساس”: “كنت في غرفة العمليات في مستشفى النيني في طرابلس، ثمّ نزلت إلى عيادتي فوجدت الناس في حالة صدمة يمازجها ذهول وبكاء ونحيب. كانت تلك اللحظة المنطلق لمرحلة نضالية ثانية”.
*هل شكّل استشهاد الحريري نهاية مرحلة من تاريخ لبنان أم من تاريخ الطائفة السنّيّة؟
– حدث التحوّل في تاريخ المنطقة كلّها. في ذلك الوقت ثلث السنّة لم يكونوا مع رفيق الحريري، حتى بعد اغتياله. لكنّها كانت المرّة الأولى التي يصبح فيها للطائفة السنّيّة زعامة شبه مكتملة. وقتئذٍ خرج لبنان من الاحتلال السوري، وبدأ الاحتلال الإيراني يركّز أرضيّته. كانت بداية الهجوم الإيراني الكامل في المنطقة. وكان اغتيال رفيق الحريري مقدّمة للاحتلال الفارسي للمنطقة. وعينا ذلك لاحقاً لأنّنا كنّا تحت الوهم، ولطالما كنت ضدّ حزب الله لأسباب أيديولوجيّة، إذ كنت أعتبر أنّه متى حَكَم الحياة السياسية فكرٌ ديني أو أسطوري وقعت الكارثة.
*كيف تلخّص المشروع السياسي لرفيق الحريري؟ وهل انتهى برأيك؟
– نعم انتهى. كانت خطوطه العريضة توسيع قاعدة الرزق للناس، تكبير الاقتصاد، ومحاولة المنافسة بموازاة السلام القادم مع إسرائيل من خلال توحيد القوى العبثية في وحدة اقتصادية متكاملة حتى لا يتمّ ابتلاعها. هذه هي الفكرة الأساسية. وهي فكرة ليبرالية اقتصادية تتحوّل إلى ليبرالية سياسية. انتهى المشروع باغتياله، وبعدم قدرة الورثة، ومن ضمنهم رئيس تيّارنا، على اتّخاذ عِبَر نضاليّة تسهم في القتال من أجل هذه القضية، ولأنّنا دخلنا في لعبة السلطة. لقد أنهانا حزب الله والمشروع الإيراني بلعبة السلطة المحليّة والتنافس المحلّي فيما يقومان بالترغيب والترهيب.
*ماذا كانت نقطة الضعف عند سعد الحريري؟
– لم يكن مشروع رفيق الحريري معزولاً، بل كان مرتبطاً إقليمياً بالسعودية وتفهّمها وتشجيعها، وكان يقوم على تحويل لبنان إلى نقطة انطلاق إلى الغرب وإدخال الغرب إلى العالم العربي.
على المستوى الدولي، كانت تربط رفيق الحريري علاقات وطيدة بشخصيّات، مثل جاك شيراك في فرنسا، وترودو الأب في كندا، اللذين تعرّفت إليهما لاحقاً. لقد ساعدت ظروف دولية الرئيس رفيق الحريري، الذي كان لديه حلم حاول تحقيقه في لبنان. كان على قناعة بأنّ العالم العربي لديه إمكانات هائلة إذا تمكّن من التوحّد حول رؤية اقتصادية مشتركة تتحوّل تدريجياً إلى رؤية سياسية ديموقراطية. عندئذٍ يمكننا مواجهة إسرائيل بالطريقة الأكثر نجاعة بالمقارنة مع الطريقة الحالية.
إنّ التغيّرات التي حدثت على مستوى العالم، مثل خروج جاك شيراك من السلطة ومجيء الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى الحكم، وفشل جورج بوش بتهيئة مشروع جدّيّ على مستوى المنطقة، وعودة المشروع السوري بشكل مختلف، ومحاولة بشار الأسد خداع المشروع السعودي لكي يخرج الإيراني من لبنان وسوريا في مرحلة من المراحل، دفعت سعد الحريري إلى تسويات سياسية في ذلك الوقت، وهذه أصابت مشروع رفيق الحريري في مقتلٍ. كانت صيغة السين سين مقتلاً، وسعد الحريري سار فيها مرغماً.
*هل انتهت مسيرة سعد الحريري؟
– لا أظنّ، فتيّار المستقبل ليس سعد الحريري فحسب، بل هو نحن أيضاً. نحن لن نترك.
لم يكن مشروع رفيق الحريري معزولاً، بل كان مرتبطاً إقليمياً بالسعودية وتفهّمها وتشجيعها، وكان يقوم على تحويل لبنان إلى نقطة انطلاق إلى الغرب وإدخال الغرب إلى العالم العربي
*هل سيعود؟
– أنا لا أبني على هذا الأمر. أتمنّى أن يعود. ليس بالضرورة أن تكون الزعامة موجودة. الزعامة لا يتمّ فرضها، بل يجب أن تبني ذاتها. أنا لا أحبّذ الزعامة المطلقة، بل الزعامة الوطنية التي تنبثق من خلال خيارات سياسية، وطبعاً لا يوجد مشروع من دون رأس، وهذا أمر أكيد.
لن تُحلّ المشكلة القائمة بين لبنان والسعودية قريباً، لكنّ استعادة شعارات نضالية رفعتها قوى 14 آذار قد تُجبر القاصي والداني على الاعتراف بنا، بحسب ما يقول علوش.
صرّح يوماً بأنّ المملكة العربية السعودية “تركتنا”، ويقول لـ”أساس” في هذا الصدد: “في نهاية المطاف عند طلب مواجهة حزب يتلقّى دعماً مالياً ومعنوياً هائلاً مثل “حزب الله”، لا يمكن ترك الناس لمصيرها”.
* وما رأي الدكتور علوش بطرح خيار العصيان السياسي السنّيّ وعدم المشاركة في أيّة حكومة لا يتضمّن بيانها الوزاري الاستراتيجية الدفاعية؟
– يقول: “أعتبر أنّ خيار عدم المشاركة في أيّ حكومة فيها حزب الله بتكوينه الحالي هو الأفضل للبلد حتى لا تُعطى له الشرعية الدستورية والرسمية، وأؤيّد الذهاب إلى معارضة واسعة النطاق تحمل مشاريع محدّدة بالنسبة إلى حلّ قضية السلاح وإعادة تفعيل الاقتصاد وحلّ الأزمة المالية وتعديل بنية النظام شرط بقاء اتفاق الطائف بروحيّته لأنّه الوحيد القادر اليوم على صون وحدة البلد في ظلّ الجنوح الواضح نحو الانفصال. أمّا عن الاستراتيجية الدفاعية فعلينا ألا نعود إلى طرحها من جديد لأنّها ستكون مجرّد تسويف وتسويغ لاستمرار الحالة الشاذّة المسمّاة “مقاومة” زوراً، فيجب أن لا تدخل مسألة السيادة في مجال المساومات والجدل الطويل الذي لا قرار له”.
عن حالة طرابلس يقول الطبيب الجرّاح: “كادت مدينة طرابلس أن ترزح تحت المزيد من الفقر والبؤس لولا عطاءات المغتربين اللبنانيين، وخصوصاً في أستراليا، و”لولا هؤلاء لكان الوضع مأساويّاً. وقد قالت لي سفيرة أستراليا في اجتماع عقدته معها إنّها تقدّر أنّ قرابة مليار دولار أسترالي، أي 700 مليون دولار أميركي، تدخل لبنان سنوياً من المغتربين في أستراليا”. يعيد مصطفى علوش حالة الفقر المنتشرة في بعض أحياء طرابلس إلى انعدام الاستثمارات. “إنّ وجود أغنياء في المدينة لا يجعلها ثريّة، فلا أحد من هؤلاء استثمر في طرابلس بشكل دائم. فالكثير من هؤلاء مطبوعون على التحفّظ، فلا يتقدّمون خطوة واحدة إلا بعد دراستها بشكل واسع. لا توجد روح المغامرة في رأس المال في طرابلس. لكن لا ننسى أيضاً أنّ طرابلس خُنِقت على مدى 30 عاماً. فمنذ الاحتلال السوري وطرابلس تُعامل كمدينة محتلّة”.
ماذا عن مرفأ طرابلس وهو حيويّ لها وللبنان؟ يقول علوش: “لا يكفي أن يخدم المرفأ الداخل اللبناني فحسب، بل يجب أن تتوسّع خدماته إلى سوريا والعراق. حين كان مرفأ طرابلس مدخلاً للبضائع إلى العراق، وكانت طرابلس مصحّاً لأبناء سوريا، وكان الطلاب يقصدون مدارسها وجامعاتها، كان الأمر مختلفاً. إنّ انغلاق الأفق أمام المدينة، وانغلاق الأفق الجغرافي، والانغلاق الذاتي والمحافظ والمتديّن بشكل معكوس، أي التديّن الانغلاقي، دفعت المدينة إلى هذا الوضع، بالإضافة إلى أنّ أصحاب الرأسمال هم إمّا بخلاء أو جبناء”.
إقرأ أيضاً: مصطفى علوش: الخيار الثوري لا العائلي ينقذ “المستقبل”.. (1/2)
أمّا عن اللافتات العملاقة التي تنتشر في طرابلس وعند مداخلها، وتحمل صور الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود ووليّ العهد الأمير محمد، فيعلّق الدكتور علوش: “إنّها تمنّيات البعض بأن يراها أحدهم ويخبر عنها الملك سلمان. هذا الأمر لم يحدث. تحتاج القضية اليوم إلى موقف نضالي يُلزم الآخرين بعرض مساعدتهم علينا، موقف نضالي ضدّ السلاح غير الشرعي”. ويرى علوش أنّه لا يكفي أن يتطرّق الرئيس سعد الحريري مراراً في خطاباته إلى هذا الموضوع، بل “يجب رفع شعار انتخابي وسياسي، ثمّ إعادة جمع القوى الموجودة على الأرض، والخروج من الفراغ السياسي، وإعادة الحركة النضالية، والتحالف مع القوى السياسية”.