فور صدور البيان السعودي – الفرنسي المشترك، عقب اللقاء بين وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سارعت أوساط حزب الله إلى تصوير البيان كما لو أنّه أمر عمليات سعودي – فرنسي للقوى المناوئة للحزب في بيروت لكي تصعِّد وتيرة مواجهتها معه وبالوسائل كلّها حتّى لو وصل الأمر إلى حدّ وقوع حرب أهليّة.
من دون الدخول في سياقات البيان الإقليمية – الدولية والفرنسية – السعودية، فإنّ الأكيد أنّ الذين صوّروا البيان على هذا النحو يدركون جيّداً أنّ كلامهم لا يستند إلى حقائق ولا إلى وقائع، بل جلّ ما أرادوه يتلخّص في أمرين متداخلين:
أوّلاً: اتّهام السعودية بأنّها تدفع حلفاءها في لبنان (وتحديد هؤلاء يحتاج أصلاً إلى تدقيق) إلى مواجهةٍ مع حزب الله ليست سياسية وإعلامية وحسب، بل بالسلاح والعنف أيضاً.
وثانياً: نفي أيّ أسباب وطنيّة لمعارضة حزب الله، وتصوير الأمر كما لو أنّ اللبنانيين كانوا سيحلفون باسم الحزب صبحاً ومساءً لولا حثّ السعوديّة لهم على مواجهته بسبب اتّهامها له بتدريب الحوثيين الذين يقصفون أراضيها بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة.
قبل أن تكون أزمة الحزب أزمة إقليمية، فهي أزمة وطنية لبنانية تتمثّل بهيمنة الحزب على القرار السياسي للدولة اللبنانية
إذاً يريد حزب الله نزع أيّ صفة وطنية عن معارضيه، ويحاول نفيَ أن تكون سياساته المرتكزة على ازدواجيّته العسكرية والسياسية وازدواجيّته كمقاومة وكقوة إقليمية تتسبّب بأزمة وطنية غير مسبوقة قبل أن تتسبّب بأزمة مع الدول الخليجية والعالم.
في السياق نفسه، فإنّ تأكيد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في تصريحين متتاليين أنّ “الأزمة ليست بين السعودية ولبنان، وإنّما هناك أزمة في لبنان”، يضيء على تراتبية أزمة حزب الله بين شقّها اللبناني وشقّها الإقليمي والدولي.
فلو افترضنا أنّ الحزب انسحب من القتال في سوريا واليمن، وأوقف كلّ الدعم الإعلامي والسياسي والعسكري للميليشيات الموالية لإيران في العراق وللحوثيين في اليمن، أي لو افترضنا أنّ الحزب ما عاد مشكلة إقليمية بالنسبة إلى دول الخليج، فهل تنحلّ “الأزمة في لبنان” التي تحدّث عنها بن فرحان؟
الجواب: حتماً لا.
الأزمة لبنانية – لبنانية
قبل أن تكون أزمة الحزب أزمة إقليمية، فهي أزمة وطنية لبنانية تتمثّل بهيمنة الحزب على القرار السياسي للدولة اللبنانية، وهو ما يؤدّي حكماً إلى إنتاج واقع احتلالي في الداخل اللبناني بالنظر إلى الدعم المفتوح الذي يتلقّاه الحزب من دولة خارجية هي إيران، والذي يجعله جزءاً من الأجندة الإيرانية في لبنان والمنطقة.
ولا ريب أنّه لو لم يتمكّن الحزب من الهيمنة على الدولة بممارسة التعطيل السياسي الممنهج لفرض شروطه على المؤسسات الدستورية وباستخدام العنف لترهيب الحياة السياسية وتعليبها، لَما كان استطاع تحويل لبنان منطلقاً لنشاطاته الإقليمية، أي لَما كان تحوّل جزءاً من أزمة إقليمية تضرّ بالسعودية أو سواها من دول المنطقة.
لذلك فإنّ معالجة أزمة حزب الله هي بالدرجة الأولى مسألة وطنية لبنانية قبل أن تكون مسألة عربية أو إقليمية أو دولية، باعتبار أنّ الحزب مشكلة وطنية أوّلاً قبل أن يكون مشكلة إقليمية.
يسأل البعض: كيف يمكن مواجهة حزب الله بعدما بات بسلاحه وانتشاره جزءاً من النسيج اللبناني ومن المعادلة الإقليمية؟
بدايةً لا يُفترض أخذ هذا السؤال بحسن نيّة واعتباره يعكس أمراً واقعاً. فالقوى السياسيّة التي تطرحه تريد:
– إمّا التخفّف من عبء مواجهة أزمة الحزب، بل من عبء طرحها وتفكيكها لإيجاد السُبل للتعامل معها.
– وإمّا التعايش والمساكنة مع أزمة الحزب بهدف مشاركته في السلطة، حتّى لو كانت هذه السلطة خُلّبية على ما أثبتت تسوية العام 2016، وعلى ما تثبت الآن تسوية حكومة نجيب ميقاتي التي عطّلها الحزب بعد أقلّ من شهر على تأليفها.
فقد وضع الحزب الجميع أمام معادلة مؤدّاها: إمّا أن يُنحّى القاضي البيطار أو لا اجتماع لمجلس الوزراء. وللمفارقة فقد وصل الأمر بواقعيّة نجيب ميقاتي إلى حدّ القول إنّ “الحكومة ماشية لكن مجلس الوزراء فلا”!
تكمن مشكلة غالبية اللبنانيين مع الحزب في كونه يريد أن يفرض عليهم التعامل معه بوصفه مقاومة، فيما هو يتصرّف بوصفه قوّة إقليمية وجزءاً من الأجندة الإيرانية في المنطقة
كيف إذاً يمكن مواجهة الحزب في ظلّ الوضع الراهن؟
المطلوب أوّلاً هو الاعتراف بأنّ الحزب يتسبّب بأزمة وطنية كبرى متّصلة أساساً بهيمنته على القرار السياسي للدولة اللبنانية. وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الجمهورية اللبنانية، إذ لم يحدث من قبلُ أن فرض حزبٌ مسلّحٌ شروطه على الدولة اللبنانية مخيّراً إيّاها بين أن تنفّذ هذه الشروط أو تتوقّف عجلة الدولة.
فرض هذا الواقع على اللبنانيين اختبار مفارقة عجيبة. فإذا كان الحزب يرهن مسار الدولة ومصالح المجتمع بحجّة توفير شروط الردع مع إسرائيل والصمود بوجهها، فإنّ شرائح واسعة من اللبنانيين بات همّها توفير مستلزمات الصمود أمام التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي رتّبتها شروط الحزب للصمود بوجه إسرائيل. وهي شروط غير خاضعة للنقاش الداخلي لا في البرلمان ولا خارجه. فوحده الحزب يحدّدها ويُلزم الدولة والمجتمع بها، وقد وسّعها إلى حدود استخدام سلاحه في بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء دفاعاً عن سلاحه.
لذلك تكمن مشكلة غالبية اللبنانيين مع الحزب في كونه يريد أن يفرض عليهم التعامل معه بوصفه مقاومة، فيما هو يتصرّف بوصفه قوّة إقليمية وجزءاً من الأجندة الإيرانية في المنطقة.
قتلت هذه المعادلة، التي يفرضها الحزب على الدولة والحياة السياسية، السياسة في لبنان. لأنّ إمكانية السياسة باتت مرتبطة بإمكانية نقاش هذه المعادلة وتفكيكها وإظهار تعارضها مع مصلحة لبنان واللبنانيين، فيما يمنع حزب الله أيّ نقاش فيها تحت طائلة تخوين خصومه واتّهامهم بالعمالة والتطبيع، وهذا بالحدّ الأدنى.
هكذا أصبحنا أمام معضلة وطنية ذات مستويين:
– من جهة، يرفض حزب الله الاعتراف بكلفة مشروعه على الدولة والمجتمع ويكابر على الأزمة الوطنية التي يسبّبها هذا المشروع.
– ومن جهة ثانية، لم يتشكّل وسط سياسي متماسك يضع هذه الأزمة في مقدّم أولويّاته بوصفها أكبر الأزمات الوطنية، ومن دون حلّها لا طائل من حلّ الأزمات الأخرى المتأتّية أساساً منها. بل ثمّة مَن يروّج لاستعصاء حلّ أزمة حزب الله، إمّا للقول إنّه لا مناص من التعايش مع الحزب والمساكنة معه في السلطة، وإمّا للقول إنّ الصيغة والنظام الحاليّين سقطا ولا بدّ من التفتيش عن صيغة ونظام جديدين يُرضيان حزب الله لكي تنتظم الأمور في لبنان. كما لو أنّ الحزب سيتخلّى عن سلاحه ما إن تتغيّر الصيغة والنظام. مع أنّ الحزب سيتمسّك وقتذاك أكثر بسلاحه لحماية مكتسباته وتعزيزها.
لا نفع لتسوية دولية
لا بدّ من التنويه بأنّ الاعتقاد بأنّ أيّ تسوية إقليمية ودولية حول لبنان يمكنها أن تستوعب ازدواجية الحزب الحالية بين جناحه السياسي وجناحه العسكري هو اعتقاد خاطئ. فاتفاق الطائف تمّ عندما رفعت الميليشيات سلاحها عن طاولة التفاوض فيما يريد الحزب الآن التفاوض على مستقبل لبنان وسلاحه على الطاولة.
وتقوم استراتيجية الحزب الآن على إضعاف دفاعات اللبنانيين المعارضين له قبل حدوث أيّ مفاوضات بشأن الأزمة اللبنانية. فهو يريد إخماد أيّ دينامية وطنية مؤهّلة لطرح الأزمة من زاوية هيمنة الحزب على الدولة وإخضاعها للأولويّات الإيرانية.
لذلك يكمن التحدّي الأساسي للمعارضة في تشكيل دينامية سياسية توحّد خطابها حول نقطة رئيسية هي رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان.
إقرأ أيضاً: الانتخابات.. مدخل لمواجهة الاحتلال الإيراني السياسي؟
أمّا كيف يُرفع هذا الاحتلال؟
فالجواب يبدأ لحظة تكوين وسط سياسي مؤهّل لاستعادة بديهيّات العمل الوطني المرتكزة على سيادة الدولة ووحدتها وسلمها الاجتماعي، لا ضدّ من يمثّل حزب الله، وإنّما ضدّ استخدامه ازدواجيّته للاستحواذ على الدولة وإخضاع المجتمع.